الثلاثاء، 12 أغسطس 2025

02:12 ص

محمد حبيب يكتب: هل استعد الوعاظ لحماية دورهم من زحف الذكاء الاصطناعي؟

الإثنين، 11 أغسطس 2025 09:30 م

محمد حبيب

محمد حبيب

بقلم محمد حبيب

ها هى الموجات الجديدة من الذكاء الاصطناعي تزحف في كل مجال، ووسط هذا التغير السريع، قد يطمئن بعض الوعاظ والواعظات إلى أن دورهم في مأمن، وأن الموعظة الحية لا يمكن أن يزاحمها أحد، وأن المنبر البشري عصيٌّ على المنافسة. غير أن هذا الاطمئنان قد يخفي في طياته غرورًا خطيرًا، لأن الحقيقة أن الوظائف لا تختفي فجأة، لكنها تضعف وتتآكل إذا لم تجدّد نفسها وتثبت ضرورتها. 


ومن يظن أن جمهور اليوم سيظل وفيًّا له بلا تطوير ولا ابتكار، قد يستيقظ بعد سنوات ليجد أن القلوب التي كانت تصغي له قد وجدت بدائل أخرى أكثر قربًا أو جاذبية في نظرها. 


إن التحدي الحقيقي ليس في وجود التقنية، بل في قدرة الواعظ على أن يظل حاضرًا في وجدان الناس، وأن يقدم لهم ما لا يمكن لآلة أن تمنحه: دفء الإنسان، وصدق الإحساس، وعمق الخبرة الحية.


أيها الواعظ؛ فأنت حين تصعد المنبر أو تجلس في حلقة علم، لا تقدم مجرد كلمات، بل تمنح جزءًا من نفسك، وشيئًا من دفء روحك، وملامح من رحمة قلبك. وكل هذا لا تستطيع أي آلة في الدنيا أن تقلده أو تدرك سرَّه، لأن الكلمة الحية ليست حروفًا متراصة، بل نبضٌ يسري في الوجدان قبل أن يصل إلى الأذن.


إن جمهورك لا يأتيك بحثًا عن معلومة فحسب، فالمعلومة متاحة بضغطة زر، لكنهم يأتونك بحثًا عن الطمأنينة التي تهدئ قلوبهم، وعن النظرة التي تشعرهم بأنهم مفهومون ومقبولون كما هم، وعن اليد المعنوية التي تمتد إليهم وسط فوضى الحياة. وهذه الحاجات الإنسانية العميقة لا يمكن لشاشة أن توفرها، ولا لخوارزمية أن تحاكيها، لأنها تولد من قلب يَشعر، ومن نفس تَحس، ومن عين ترى الإنسان قبل أن ترى سؤاله.


أيها الواعظ النجيب، حين تتحدث، عليك ألا تكتفِ بأن تشرح أو تفسر، بل اجعل حديثك نسيجًا حيًا من القصص والتجارب والمشاعر، دع المستمع يرى فيك الإنسان الذي عاش وتعلَّم وخَبِر، لا الملقِّن الذي يردد محفوظات. فالقصة التي ترويها بصدق، والموقف الذي عشته بعمق، يملكان قوة اختراق للقلوب تفوق آلاف العبارات المنمقة. وكلما أحس المستمع أنك تشاركه خبرتك بصدق، ازدادت جسور الثقة بينك وبينه قوةً ورسوخًا.


وفي لحظة الإلقاء، كن يقظًا لتفاعلهم، التقط ابتسامةً هنا، أو نظرة تساؤل هناك، واستجب للحظات الصمت كما تستجيب للأسئلة المعلنة. فالموعظة الحية تشبه النهر، تتشكل مجراها بحسب تضاريس الأرض التي تسقيها، وحين تدرك هذا، يصبح خطابك كائنًا حيًا يتحرك معهم لا فوقهم، ويعيش اللحظة لا يعلو عليها.


ولا تجعل موعظتك نهاية المطاف، بل بداية رحلة. تابع من حضروا، تواصل معهم، افتح لهم بابًا يسألونك من خلاله، وأذنًا تستمع إليهم بلا استعجال، ويدًا تشد من أزرهم حين يضعف العزم. فالعلاقة التي تمتد بعد الكلمة، هي التي تجعل أثرها مستمرًا، وتجعل الناس يعودون إليك لا لأنك الخطيب الأبلغ، بل لأنك الرفيق الأصدق.


وتذكّر أن تجديد الأسلوب ليس ترفًا، بل ضرورة للبقاء مؤثرًا. استخدم لغة الناس، استعن بأمثلة من واقعهم، اربط القيم الخالدة بأحداث الساعة، وكن حاضرًا في زمنهم بعقل واعٍ وروح ثابتة. فالناس لا تنسى من يكلّمهم بلسانها ويفهم نبضها، حتى وإن اختلفت الأزمنة وتبدلت الأدوات.


واستعن بالتقنية حين تحتاجها، لكن لا تسلّم زمام رسالتك لها. اجعلها خادمًا يعينك على جمع المادة وتنظيم الأفكار، لا سيدًا يفرض عليك طريقًا واحدًا للخطاب. فالمنبر الذي يقوده قلبك وعقلك، يظل أغنى من أي شاشة مهما لمع بريقها، وأعمق من أي نص مهما بلغ اتقانه.


واعلم أن المنافسة الحقيقية ليست بينك وبين الذكاء الاصطناعي، بل بين الكلمة التي تُقال بغير روح، والكلمة التي يشتعل بها القلب إيمانًا وحبًا. وما دامت كلمتك صادقة، فلن تفقد جمهورها، لأن الإنسان بطبعه ينجذب إلى من يراه ويشعر به ويسمع صوته الحي، لا إلى من يخاطبه ببرود عبر أسلاك وأكواد.


فالرسالة التي تحملها أكبر من أي تحدٍّ تكنولوجي، وأعظم من أن تُختزل في نص جامد. هي رسالة رحمة، وعدل، وهداية، وإحياء للقلوب، وهذه قيم لا يمكن برمجتها ولا ضغطها في ملف، بل تحتاج إلى إنسان يجسدها ويعيشها أمام الناس.


وفي النهاية، تذكّر أن أعظم ما يحمي دورك ويجعل حضورك مستدامًا، هو إخلاصك لله، وصدق نيتك، بجانب الأخذ بالأسباب كحبك الصادق لمن تخاطبهم، فحين تخرج كلمتك من قلب عامر باليقين والرحمة، فإنها ستجد طريقها، مهما ارتفعت أصوات الشاشات، ومهما ازدحم العالم بالبدائل، لأن النور الذي يسكن القلب لا يستطيع أي ذكاء اصطناعي أن يطفئه.


وختامًا؛ أيها الوعاظ، لا تركنوا إلى دفاتر المحفوظات، ولا إلى شهادات تزيّن الجدران، ولا إلى تصفيق الجموع من حولكم، فالأمواج القادمة لا تعرف المجاملة ولا تهاب الأسماء. فطوفان الذكاء الاصطناعي يندفع كالسيل، يتعلّم بسرعة، ويضيف إلى ترسانته ما كان يُظن أنه حكرٌ على الإنسان: نبرات الدفء، وإيماءات التعاطف، وملامح المشاعر. إنه يتدرّب على تقليد إحساسكم ذاته، حتى يكاد يقنع من يسمعه أنه يملك قلبًا يخفق. فإن لم تحافظوا على الصدق الذي لا يُحاكى، والحضور الذي لا يُقلَّد، فستجدون أن مكانكم على مقعد الوعظ لم يعد محجوزًا لكم وحدكم. بل يتقدّم نحوه الروبوت ليجلس فيه، أو بمعنى أدق سوف ينجذب له الإنسان المتلقي ويختاره بديلًا لكم، وهذا أمر لا يتمناه عاقل.

Short Url

search