الجمعة، 08 أغسطس 2025

11:19 ص

محمد حبيب يكتب: لماذا يُقبل البعض على المحتوى التافه.. تشريح نفسي لسحر التفاهة

الأربعاء، 06 أغسطس 2025 04:54 م

محمد حبيب

محمد حبيب

محمد حبيب

أصبح الآن من المألوف أن ترى جمهورًا واسعًا، بأجيال متباينة، يجلسون ساعاتٍ طوالًا أمام محتوى خفيف سطحي، على التيك توك وأخواتها، محتوى لا يُغني عقلًا، ولا يُثري وجدانًا، ولا يفتح آفاقًا. محتوى قد يُضحك لحظات، لكنه يسلب من الروح شيئًا فشيئًا شغف المعرفة. والغريب أن هذا الإقبال لا يأتي فقط من أناس لم يذوقوا العلم أو الثقافة، بل حتى من طلاب جامعات، ومعلمين، ومثقفين، كأنّ هناك "سحرًا خفيًا" يشدهم إلى هذا اللون من التفاهة البصرية، ويبعدهم عن المحتوى العميق والهادف. فما هذا السحر؟ وما الذي يجعل الإنسان يهرب من الجمال المعرفي إلى التسلية المجوفة؟


ليست المشكلة في المتعة ذاتها، فالمتعة حاجة إنسانية أصيلة، بل المشكلة حين تصبح المتعة هدفًا منفصلًا عن المعنى، حين تغدو الضحكة بلا روح، والفيديو بلا قيمة، والمشهد مجرد محاكاة رخيصة لواقع لا نعيشه ولا نفهمه. هنا تتحوّل الشاشة إلى مرآة مشوشة، يرى فيها المشاهد ذاته دون وعي، يراقب انحداره المعرفي بتسلية، ويسقط دون أن يشعر، شيئًا فشيئًا، من إنسان مفكر إلى مستهلك سلبي للضجيج الرقمي.


إن أول الأسباب النفسية لانجذاب الناس لهذا النوع من المحتوى هو الرغبة العميقة في "الانفصال الوقتي" عن الألم والقلق والضغوط اليومية. فالإنسان الحديث وفي أغلب دول العالم مُثقل بمطالب الحياة، منهك بالعلاقات، مرهق بالمسؤوليات، ويبحث عن أي نافذة للهرب ولو لخمس دقائق. والمحتوى التافه يقدّم له هذا المخرج بسهولة: لا حاجة للتفكير، لا حاجة للفهم، فقط افتح الفيديو، واترك عقلك يستريح. إنه نوع من "الاستراحة الانفعالية" المؤقتة، لكنها – للأسف – تتحول مع الوقت إلى عادة ذهنية هروبِية.


السبب الثاني يتمثل في البحث اللاواعي عن "الإشباع اللحظي" للدوبامين، وهو الهرمون المسؤول عن الشعور بالسعادة أو بالمكافأة. كل فيديو طريف أو سخيف لكنه مثير، يفرز دفقة صغيرة من الدوبامين، تشبه تلك التي يفرزها الدماغ عند تناول الحلوى أو الفوز في لعبة. هذا النمط المتكرر يعلّم العقل أن يتوقّع المتعة السريعة، ويجعل المشاهد يُفضّل السطح على العمق، والعابر على المتين. وهكذا يولد نمط نفسي يُسمى "الإدمان السلوكي"، حيث يظل الإنسان يبحث عن اللذة البسيطة، وينفر من أي جهد معرفي أو شعوري حقيقي.


السبب الثالث يرتبط بحاجة الإنسان العميقة للشعور بالانتماء. في عالم تتحكم فيه التريندات، يخشى الفرد أن يكون غريبًا عن السياق، فيُجاري ما يشاهده الآخرون حتى لو كان تافهًا. هناك قلق داخلي من أن يُقال عنه إنه "خارج الزمن"، أو أنه "لا يفهم ما يحدث". فيتابع الفيديوهات الرائجة لا بدافع المتعة فقط، بل بدافع البقاء الاجتماعي. هذا ما يسمى في علم النفس بـ "قلق الفقد الاجتماعي" أو FOMO، وهو شعور يجعل الإنسان يُفضّل أن يكون جزءًا من القطيع بدلًا من أن يشعر بالعزلة المعرفية.


السبب الرابع يكمن في التكوين النفسي منذ الطفولة. كثيرون لم يتم تدريبهم على مهارات التفكير النقدي، ولا على التذوق الجمالي للمحتوى. نشأوا في بيئات لا تحتفي بالقراءة، ولا تُشجع على التأمل، فصار ذهنهم متعطشًا لكل ما هو سريع، مباشر، مبهرج. ومع وجود تقنيات تسويق المحتوى التي تعتمد على المؤثرات البصرية، والموسيقى المثيرة، وتقطيع المشاهد بشكل مريب، أصبح من الصعب عليهم مقاومة هذا التيار، لأن عقولهم لم تُبْنَ لتتذوق العمق، بل لتستهلك الإيقاع.


أما السبب الخامس فهو أخطرها: الفراغ النفسي. هناك مساحات داخلية في النفس البشرية لا يملؤها إلا التحدي، والإنجاز، والارتباط بحلم شخصي. وحين تكون هذه المساحات فارغة، يبحث الإنسان عن أي "بديل سريع" يسدها. والمحتوى التافه يقدّم نفسه كوجبة جاهزة: سريعة، ملونة، سهلة الهضم، لا تتطلب أي مواجهة مع الذات أو سؤال عن الهدف. وهذا الفراغ هو ما يجعل الإنسان يقبل بأي "صوت خارجي"، فقط لئلا يصغي إلى صمته الداخلي.


لكن المشكلة لا تقف عند حدود السلوك، بل تمتد إلى أعماق الكينونة. حين يستمر الإنسان في استهلاك المحتوى التافه، تنخفض قدرته تدريجيًا على التركيز، ويصبح عقله متكيّفًا مع "القفز" من فكرة لأخرى دون اكتمال. تتآكل قدرته على الحضور، على الإنصات، على التأمل. وهذا يؤدي مع الوقت إلى نوع من "التبلد المعرفي"، حيث تصبح القراءة عبئًا، والاستماع مملًا، والتفكير جهدًا زائدًا عن الحاجة. إننا هنا أمام تحوّل تدريجي في بنية الإدراك نفسها.


فما الحل؟ كيف نعيد الإنسان إلى عمقه، دون أن نجرده من حاجته للترفيه؟ أولى خطوات العلاج أن نُعلّم الإنسان كيف يصغي إلى نفسه. أن يعرف لماذا يشاهد ما يشاهده. أن يُسائل ذائقته، ويعيد تشكيل علاقته بالمحتوى من علاقة استهلاك إلى علاقة وعي. وهذا يحتاج إلى حملات نفسية وتربوية تُعيد للناس احترام عقولهم، دون وصاية، بل عبر الإقناع، والنماذج، والحوار.


ثم لا بد من بناء "بدائل ذكية" تُقدّم الترفيه والمعنى معًا. ليس المطلوب أن نستبدل التافه بالعظة الثقيلة، بل أن نبتكر محتوىً ممتعًا، راقيًا، جذابًا، يُشبع الذائقة ويُغذّي الوجدان. التحدي ليس فقط في "نقد التفاهة"، بل في "صناعة العمق المغري". ولعل في التكنولوجيا نفسها إمكانيات هائلة إذا تم توظيفها من قبل صناع محتوى واعين، قادرين على المزج بين الجمال والبصيرة.


كما ينبغي أن ينهض علماء الدين، من الواعظين والواعظات، بدور جريء ومؤثر في مواجهة سيل التفاهة الذي يغمر العقول، ويبدّد الأوقات، ويُغرق النفوس في أوهام لا تنفع، بل تفسد وتشغل وتلهي. فمعظم هذا المحتوى التافه قائم على الكذب، والتهريج، والسخرية من القيم والعقول، ويُسهم في تسطيح الوعي وانتزاع الوقار من القلوب. وإن تعاليم ديننا العظيم لم تأتِ لتترك الناس في متاهة العبث، بل جاءت لتعلّم الإنسان كيف يعمّر عمره بما يرقى به، وتنهى عن حضور مجالس اللغو، والانسياق وراء الباطل، والضحك على حساب العقل والكرامة. فليكن الخطاب الديني منبرًا عاليًا للتنبيه، ومصدرًا حيًّا لبث الوعي، وحماية النفوس من الوقوع في شَرَك التسلية المضلّلة التي لا تثمر إلا خواءً وضياعًا.
وأخيرًا، لا يمكن إصلاح الذوق دون أن نُصلح الشعور والإحساس. فكلما شعر الإنسان أن له قيمة، وأنه ليس مجرد مستهلك، كلما ارتفع سقف اختياراته. وكلما رأى نفسه مهمًا، سعى لما يليق بها من محتوى. لذا فإن أكبر علاج للتفاهة، هو أن نُشعر الإنسان بقيمته الحقيقية. لأن من يعرف قدر نفسه، لا يُضيّعها في سوقٍ من السراب، ولا يرضى أن تُباع لحظاته بثمن الضحك الرخيص.

تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا

إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.

Short Url

search