محمد طلعت يكتب: منع أم وصاية؟ حين يختصر المسؤول أزمة المنظومة في «مقعد»
السبت، 27 ديسمبر 2025 06:49 م
محمد طلعت
لم يكن القرار في جوهره تنظيما بقدر ما كان وصاية.
منع ركوب السيدات بجوار السائق في سيارات الأجرة والسرفيس وأتوبيسات النقل في البحيرة، خرج تحت لافتة الآداب العامة، لكن المشكلة أن الآداب لا تفرض بقرارات مرتجلة ولا تطبق بانتقائية.
البيان الرسمي الذي أصدرته إدارة المواقف العامة بمحافظة البحيرة، تحدث عن حماية وسلامة وانضباط، وهى كلمات جميلة على الورق، لكنها انفصلت تمامًا عن الواقع، فالقرار لم يحل مشكلة تحرش، ولم يمنع تجاوزًا، ولم يطوّر خدمة، كل ما فعله أنه نقل العبء إلى السيدات، وكأن وجودهن هو المشكلة.
من أصدر القرار تجاهل سؤالًا بسيطًا؛ هل المقعد الأمامي هو أصل الأزمة أم سوء منظومة النقل بالمحافظة؟ وهل السلوكيات الخاطئة تعالج بالمنع أم بالمحاسبة؟ وهل حماية المرأة تكون بإقصائها أم بضمان حقها في ركوب آمن محترم؟
على الصعيد الاقتصادي، فإن مثل هذه القرارات تعكس غياب الرؤية حول دور المرأة كقوة فاعلة في سوق العمل، فالمرأة التي تخرج يوميًا للمساهمة في الاقتصاد الوطني، تحتاج إلى منظومة نقل تضمن لها الكفاءة والسرعة لا التعطيل والتمييز.
إن حصر خيارات التنقل أمام نصف المجتمع، يمثل هدرًا للوقت والطاقة، ويحول المشوار اليومي إلى معركة استنزاف تقوض الإنتاجية، ويؤكد أن المسؤول لم يدرك أن اقتصاديات النقل تقوم على تيسير حركة الأيدي العاملة، لا خلق عوائق تزيد من كلفة المعيشة النفسية والزمنية.
إن استسهال إصدار قرارات تمييزية، يبعث برسائل سلبية لبيئة الاستثمار المحلي، فالاقتصاد القوي يقوم على مبدأ الإتاحة والعدالة في استخدام الموارد العامة، وحين يُحرم نصف القوى البشرية من حرية التنقل بسلاسة، فنحن لا نتحدث فقط عن مقعد سيارة، بل عن إعاقة حركية تؤثر على سرعة دوران عجلة العمل.
ولذلك فإن أي قرار إداري يفتقر إلى دراسة الجدوى الاجتماعية والاقتصادية، هو قرار يرفع من تكلفة الفرصة البديلة، فبدلا من أن ينشغل المجتمع بالإنتاج، ينشغل بالصراع على أحقية المقعد، وتفسير القرارات المتضاربة.
الإدارة الحديثة للدولة المصرية تسعى لتمكين المرأة كشريك أصيل في التنمية، وما حدث في البحيرة كان تغريدًا خارج هذا السرب التنموي، وعودة إلى فكر الاقتصاد المنغلق الذي يعالج الأزمات بالتضييق لا بالتوسع والتطوير.
هذا القرار كان رسالة اجتماعية خاطئة، رسالة تقول إن المشكلة في مكان جلوس المرأة لا في سلوك من يسيء، وهي رسالة لم يقبلها الشارع ولم تمر مرور الكرام، لذلك الهجوم الشعبي لم يكن مفاجئا، لأن القرار حمل رسالة غير معلنة، أن الحل الأسهل هو التضييق على الطرف الأضعف، بدلا من مواجهة الفوضى الحقيقية، بدلا من تدريب السائقين، بدلا من فرض رقابة، بدلا من تحسين وسائل النقل.
المشكلة ليست في الدولة ولا في مؤسساتها، المشكلة في مسؤول قرر أن يختصر ملفًا معقدًا في مقعد، وأن يقدم قرارا شكليا يرضي ضميره الإداري دون أن يراعي أثره المجتمعي، وهنا يجب التمييز بوضوح، الدولة أكبر من قرار، والمحافظة أوسع من بيان، لكن المسؤولية الفردية لا يجب أن تذوب داخل اسم الدولة.
فمن أصدر القرار اختار الطريق الأسهل بدلا من مواجهة الفوضى داخل المنظومة، اختار منع نصف المجتمع من حق طبيعي، وكأن المحافظة عاجزة عن فرض القانون إلا على الأضعف، وهذا منطق إداري خطير، حتى لو كانت النية حسنة، لذلك فإن التراجع عن القرار كان اعترافًا غير مباشر بالخطأ، لكن الأخطر أن يمر الخطأ دون محاسبة فكرية، لأن من أصدره قد يعيد إنتاجه بشكل آخر بعنوان جديد وذريعة مختلفة.
الشارع لم يرفض الانضباط بل رفض الارتجال، ولم يعترض على الأخلاق، بل اعترض على استخدامها كغطاء لقرارات ضعيفة، فالأمان الحقيقي لا يصنع بمنع، بل يصنع بنظام، يصنع بقانون يطبق على الجميع، يصنع باحترام المواطن لا بتقييده، وبالاعتراف أن المشكلات لا تحل بتسكين مؤقت.
القرار المعيب تجاهل واقعًا يعرفه الجميع، بأن التحرش لا يحدث بسبب مقعد، وسوء الأخلاق لا يمنعه فراغ أمامي، فالأزمة الحقيقية في غياب الرقابة، وفي سائق لا يخضع للمحاسبة، وفي منظومة تسمح بالتجاوز ثم تبحث عن غطاء أخلاقي.
أتمنى من المسؤول الذي أصدر القرار أن يجيبني عن الفلسفة التي فكر فيها وقت إصداره هذا القرار، ألم يعرف أنه بقراره قد وضع السائق في موقع سلطة إضافية، يقرر من تركب وأين تجلس، وفتح بابًا جديدًا للاحتكاك والمشاحنات اليومية، بدلا من تهدئة الشارع، وبدلا من حماية السيدات، وضعهن في مواجهة مباشرة.
وهنا أعيد أنه من المهم التأكيد أن الدولة ليست طرفا في هذا الخطأ، فالدولة حين تريد حماية مواطنيها، تفعل ذلك بالقانون والنظام، لا بقرارات مرتجلة تفتقد الحس الاجتماعي، وما حدث يؤكد أن المشكلة في إدارة محلية لم تحسن قراءة الواقع.
هناك نقطة أخرى مهمة يجب التوقف عندها، وهى التراجع السريع في القرار، وهو دليل أن الصوت المجتمعي بات مؤثرًا، لكن التأثير الحقيقي يكون حين تتحول الدروس إلى سياسات أفضل، فزمن القرارات المعزولة انتهى في عصر السوشيال ميديا، والمجتمع لم يعد يقبل أن يدفع ثمن أخطاء إدارية بسيطة التفكير.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا.
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
هبة رجاء الدين تكتب: AI يعيد تشكيل طرق الاحتفال في موسم الأعياد، ولكن!
27 ديسمبر 2025 11:47 ص
شيماء جمال تكتب.. الأب الذي يُطلّق أبناءه مع أمهم، جريمة تُرتكب "ببدلة محترمة"
25 ديسمبر 2025 02:47 م
محمد طلعت يكتب: صراع البيطريين على "الفشة" والكبدة والممبار
25 ديسمبر 2025 02:35 م
أكثر الكلمات انتشاراً