السبت، 02 أغسطس 2025

05:38 ص

محمد حبيب يكتب.. الذكاء الاصطناعي وتوتر الأفراد والمؤسسات: كيف نواجه الخطر بتدخل نفسي فعّال؟

الخميس، 31 يوليو 2025 09:59 ص

محمد حبيب

محمد حبيب

لا جدال في أن الذكاء الاصطناعي قد فتح آفاقًا غير مسبوقة أمام المؤسسات لتحسين الكفاءة، وتسريع الإجراءات، وتوسيع نطاق الابتكار داخلها. بل أصبح أداة لا غنى عنها في عالم المال والأعمال، بما يتيحه من تحليل فوري للبيانات، واتخاذ قرارات ذكية في ثوانٍ معدودة. لكن خلف هذه القوة المتزايدة، يكمن وجه آخر يحمل تحديات نفسية حقيقية تؤثر على الأفراد والمؤسسات على حد سواء.

فتخيل أن تستيقظ شركة كبرى على خبر أن ملايين الدولارات قد اختفت من حساباتها، ليس عبر سرقة تقليدية أو خطأ في النظام، بل من خلال مكالمة واحدة تحمل صوت المدير ذاته، تطلب تحويل الأموال فورًا. لا شيء يبدو غريبًا في البداية، فالصوت مألوف والتعليمات واضحة. لكن ما لم يدركه الموظف، أن الصوت كان مزيفًا تمامًا، تم توليده باستخدام تقنية الذكاء الاصطناعي. لم يكن المدير الحقيقي يعلم شيئًا، ولم يكن هناك سلاح سوى "صوت موثوق" نجح في خداع النظام والناس.

هذه الحوادث لم تعد مجرد سيناريوهات خيالية، بل وقائع حقيقية تهز كبرى المؤسسات حول العالم. في هونغ كونغ خُدعت شركة هندسية وسُرقت منها خمسة وعشرون مليون دولار، وفي أستراليا خسرت شركة “Arup” أكثر من واحد وأربعين مليون دولار بعملية مشابهة. ولم تعد الجهات المختصة تتحدث عن خطر مستقبلي، بل عن أزمة بدأت بالفعل. وأيضًا سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة  OpenAI، حذر من أن تقليد الأصوات سيؤدي إلى موجة جديدة من الاحتيال المصرفي يصعب السيطرة عليها.


والجانب الأخطر في هذه القضية لا يكمن في التقنية ذاتها، بل فيما تتركه من أثر داخلي في نفوس العاملين. فحين يصبح من الممكن تقليد أي صوت، تضعف ثقة الناس حتى في أقرب زملائهم أو رؤسائهم. تسقط الحدود بين "الحقيقي" و"المزيف"، وتبدأ حالة من القلق النفسي غير المعلن. كيف يمكن الوثوق بأي طلب شفهي؟ من يمكنه الآن أن يتصرف بأمان دون خوف أن يُخدع؟ حيث يبدأ الشك في التسلل إلى كل قرار مالي، فتنهار أحيانًا قدرة الفريق على العمل بثبات، ويضيع وقت ثمين في محاولات التأكد وإعادة التحقق.


ولا يقتصر هذا الضغط على الإدارات العليا فحسب، بل يمتد إلى الموظفين في الأقسام المالية والإدارية. يتحمل هؤلاء عبء قرارات حساسة، ويعيشون في قلق دائم من أن يكون قرار اليوم هو الخطأ الذي سيكلف الشركة ملايين غدًا. هذا الضغط يولّد حالة من التردد والخوف، ويؤدي في النهاية إلى بيئة عمل غير مستقرة نفسيًا.


أما الأثر الاقتصادي، فهو كارثي. فبالإضافة إلى الخسائر المباشرة التي قد تهز ميزانية شركة في لحظة، فإن الخوف المستمر من الوقوع في الفخ يجعل من الصعب على القيادات اتخاذ قرارات سريعة وفعالة. تتباطأ عمليات الاستثمار، وتصبح كل معاملة محل شك، وتنهار كفاءة المؤسسات شيئًا فشيئًا.


ومع تصاعد هذه الظاهرة، تبدأ الشركات في تخصيص ميزانيات ضخمة للتأمين وإجراءات الحماية الإضافية. لكنها في المقابل تخسر شيئًا لا يقل أهمية: الثقة. فحين تتراجع ثقة المستثمرين في أمان العمليات الداخلية، يطالبون بعوائد أعلى مقابل المخاطرة، أو ينسحبون تمامًا من المشاريع. هكذا، يصبح الخوف من الذكاء الاصطناعي سببًا في جمود الاستثمار وركود حركة السوق، لا سيما في القطاعات الحيوية كالمال والصناعة.


وفي مواجهة هذا النوع الجديد من الاحتيال، لا يكفي أن نطوّر فقط أنظمة الحماية أو نضيف كلمات سر معقدة. المشكلة ليست تقنية فقط، بل هي نفسية أيضًا. الموظف الذي يعيش قلقًا دائمًا لن يستطيع التركيز أو اتخاذ قرار صحيح. ولذلك، فإن أول خطوة للعلاج هي الاهتمام بالحالة النفسية للعاملين، من خلال تقديم تدريبات تساعدهم على فهم ما يحدث من حولهم بطريقة هادئة ومنظمة.


وهذه التدريبات لا تقتصر على الشرح الفني، بل يجب أن تشمل جانبًا نفسيًا واضحًا. يجب أن يتعلم الموظفون كيف يميزون بين الخوف الطبيعي وبين القلق الزائد. يجب أن يعرفوا كيف يتعاملون مع الشك دون أن يتحول إلى ارتباك، وكيف يثقون في زملائهم دون أن يكونوا ساذجين. مثل هذا التوازن يحتاج إلى تمارين منتظمة، ونقاشات جماعية، وبيئة مشجعة على التعبير عن المخاوف بدلًا من كبتها.


كذلك، من المهم أن تتحول ثقافة الشركة إلى بيئة تشجع ما يمكن تسميته بـ"اليقظة الجماعية". أي أن يشعر كل فرد أنه ليس وحده في مواجهة التحديات، وأن هناك فريقًا يدعمه، وأن من حقه أن يطلب التحقق دون أن يشعر بالخجل أو الضغط. هذا النوع من التعاون النفسي يجعل الجميع أكثر ثقة، ويقلل من فرص الوقوع في فخ الاستعجال أو الارتباك تحت الضغط.


ومن الأفكار المهمة أيضًا، أن يتم إعداد ما يشبه "دليل السلوك النفسي" داخل المؤسسات. هذا الدليل يوضح كيف يتصرف الموظف إذا راوده شك، أو إذا شعر أن هناك شيء غير طبيعي في مكالمة أو طلب. مثل هذه الإرشادات تعزز الشعور بالأمان، وتوضح أن الحذر ليس عيبًا، بل هو جزء من الثقافة المهنية الذكية.


أخيرًا، لا بد من تعاون حقيقي بين خبراء النفس وخبراء التقنية. كل طرف يملك نصف الصورة، ولا تكتمل الحماية إلا إذا اندمجت الخبرة النفسية بالتكنولوجية. هذا التعاون يمكن أن ينتج حلولًا واقعية، مثل "أنظمة تحقق" تحترم البعد الإنساني، أو سياسات داخلية لا ترهق الموظف نفسيًا. فقط حين ندرك أن الإنسان هو الحلقة الأهم في هذه المعادلة، نبدأ في بناء منظومة اقتصادية أكثر قوة وثباتًا في وجه الاحتيال الذكي.

Short Url

search