منطقة كاشين، من تمرد معزول إلى قوة معدنية عالمية
الإثنين، 28 يوليو 2025 11:09 م

المعادن النادرة الصينية
في منطقة نائية على تخوم ميانمار الشمالية مع الصين، تسير قوافل من الشاحنات المحملة بالطين المحمل بالمعادن النادرة، في خطوط هادئة ولكنها مصيرية، نحو المصانع الصينية.

خلف هذه الأطنان المتدفقة من الديسبروسيوم والتيربيوم هناك عنصران حاسمان في صناعة السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح والأنظمة العسكرية يقف جيش استقلال كاشين، فصيل متمرد لم يُعرف يومًا إلا في أدبيات الحرب الأهلية، ليجد نفسه فجأة عنصرًا لا يُستغنى عنه في شبكة الإمدادات الصناعية العالمية.
من ميليشيا حدودية إلى لاعب في الجغرافيا الاقتصادية
جيش استقلال كاشين، الذي تأسس عام 1961 للمطالبة بحكم ذاتي للأقلية الكاشينية، بات اليوم يسيطر فعليًا على واحدة من أغنى بقاع الأرض بالمعادن الأرضية النادرة.
وبعد سنوات من القتال، وسلسلة من التحالفات والخلافات مع الجيش المركزي في ميانمار، شن الكاشين هجومًا حاسمًا في أكتوبر 2023 على بلدة بانغوا عاصمة التعدين غير الرسمي لهذه العناصر، وانتزعها من سيطرة تحالف غير مستقر ضم زعيم حرب محليًا مواليًا للجيش.
لكن ما بدا انتصارًا ميدانيًا عاديًا من حيث عدد الجثث، تبين أنه ضربة جيوسياسية، فبانغوا ليست بلدة نائية فحسب، بل قلب إنتاج ميانمار من المعادن النادرة الثقيلة، وبالتبعية، شريان رئيس في سوق توريد عالمي حساس يعتمد بشكل مفرط على الصين، في وقت تزداد فيه أهمية هذه المعادن لمستقبل الاقتصاد الأخضر والعسكري على حد سواء.
اقرأ أيضًا:
الصين تكتشف معدنًا نادرًا جديدًا يعيد تشكيل خريطة المعادن العالمية
معادن نادرة.. لكن النفوذ الناتج عنها نادر أكثر
تشير أرقام شركة "أداماس إنتليجنس" الاستشارية إلى أن ميانمار استحوذت في 2023 على ما يقرب من 50% من الإنتاج العالمي للديسبروسيوم والتيربيوم، ما يجعلها لاعبًا لا يمكن تجاوزه في سلاسل توريد التقنية النظيفة.
وبما أن جيش استقلال كاشين يسيطر الآن على معظم المناجم النشطة، فقد أصبحت له الكلمة العليا حتى ولو لم يعترف به أحد كسلطة رسمية.
الأكثر إدهاشًا، أن عشرات الشركات العالمية الكبرى من "تسلا" إلى "فورد"، ومن "سيمنز" إلى “فيستاس”، تعتمد بشكل غير مباشر على هذه الإمدادات.
ورغم محاولات البعض النأي بأنفسهم عن هذه المصادر المثيرة للجدل، فإن الواقع الجيو اقتصادي يُملي شيئًا آخر: لا بديل متاح حاليًا.

العلاقة المعقدة مع الصين.. من التهريب إلى التنظيم
وبرغم أن جيش الكاشين بات الحاكم الفعلي للمناطق الغنية بالمعادن، إلا أن العلاقة مع الصين، القوة الوحيدة القادرة على معالجة هذه الخامات، ما تزال علاقة تبعية.
لا يملك الكاشين مصانع معالجة، ولا طرقًا بديلة لتصدير المعادن، وعليه، ما يُستخرج من بانغوا يهرب أو يصدر مباشرة إلى المصانع الصينية، حيث يُكرر ويُباع لشركات عالمية.
هذه المعادلة أوجدت توازنًا غريبًا، الكاشين يسيطرون على الأرض، الصين على السوق، والمستثمرون الغربيون على الطلب، وفي قلب هذه الشبكة، تُباع الموارد وسط قلق دولي بشأن الانتهاكات البيئية وحقوق الإنسان.
اقرأ أيضًا:
الرمال السوداء.. كنز مصر الاستراتيجي في حرب المعادن النادرة
الوجه المظلم للمغناطيسات الخضراء
ورغم أن هذه المعادن تُستخدم في منتجات خضراء مثل السيارات الكهربائية وتوربينات الرياح، إلا أن عملية استخراجها في ميانمار لا تقل تدميرًا عن أكثر أشكال التعدين البدائي قسوة.
فالأساليب التي تستخدم خصوصًا تقنية “الترشيح في الموقع” تعتمد على ضخ ملايين اللترات من المواد الكيميائية في التربة، ما يؤدي إلى تلوث المياه، وانهيارات أرضية، وأضرار صحية وخيمة للعمال.
وقد أظهرت دراسة من جامعة ناريسوان التايلندية "تركيزات خطيرة" من التيربيوم والديسبروسيوم والمعادن الثقيلة السامة في المياه الجوفية حول بانغوا، محذرة من أن هذه المياه غير صالحة للاستهلاك البشري أو الحيواني.
ورغم وعود سابقة بالإصلاح من الحكومة لم يتحقق شيء، وبعد انقلاب 2021 العسكري، انهارت جميع أشكال الرقابة والتنظيم، ما سمح للمتمردين والمهربين وأمراء الحرب بالهيمنة الكاملة على قطاع التعدين.

نقطة انعطاف في تجارة السلع الاستراتيجية
من منظور عالمي، تمثل معادن كاشين حالة نموذجية لفشل السوق الدولية في ربط الاستدامة بالطلب، فالشركات الغربية تواصل شراء المعادن النادرة دون تدقيق جدي في مصدرها، رغم معرفة الجميع بأن عمليات الإنتاج تفتقر للحد الأدنى من المعايير الأخلاقية أو البيئية.
في هذه الأثناء، تواصل الصين تشديد قبضتها على السوق، إذ تظهر البيانات أن 50% من وارداتها من المعادن الأرضية النادرة الثقيلة العام الماضي جاءت من ميانمار، تحديدًا من مناطق يسيطر عليها الكاشين.
ومع ارتفاع التوترات التجارية مع الولايات المتحدة، فإن هذه الهيمنة قد تتحول إلى ورقة ضغط جيوسياسية قوية بيد بكين.
اقرأ أيضًا:
"أزمة المعادن النادرة"، البنتاجون يستثمر 400 مليون دولار ويبدأ سباق الاستقلال الصناعي
مستقبل غير مستقر بين الجشع الدولي والانهيار المحلي
من الناحية الاقتصادية، ما يملكه الكاشين اليوم يمكن أن يدر دخلاً سنويًا يقدر بمئات ملايين الدولارات، إلا أن التنظيم ما زال بدائيًا، ولا توجد حتى الآن سياسة واضحة لفرض الضرائب أو إعادة استثمار العائدات في الخدمات العامة أو البنية التحتية.
والأسوأ، أن السكان المحليين ما يزالون في هوامش سلسلة التوريد، يعملون دون حماية، بأجور متدنية، وفي ظل تهديد دائم بالعنف أو الطرد القسري.
المفارقة أن كثيرًا من هذه المعادن النادرة، التي تُستخرج بأيدٍ عارية من تربة سامة، ستجد طريقها إلى منتجات تُباع بأسعار باهظة في أسواق كاليفورنيا وأوروبا، دون أن يعود من أرباحها شيء إلى العامل الذي استخرجها.

مورد بالغ القيمة في يد فصيل بلا دولة
بانغوا اليوم ليست مجرد بلدة حدودية، بل عقدة مركزية في لعبة كبيرة، تتشابك فيها المصالح الصينية، والمخاوف البيئية، واحتياجات الاقتصاد العالمي، وحسابات الفصائل المسلحة.
ومع تصاعد السباق العالمي لتأمين المعادن الاستراتيجية، من المحتمل أن تزداد أهمية جيش استقلال كاشين ليس كمجرد ميليشيا محلية، بل كلاعب غير رسمي في سلاسل التوريد العالمية.
لكن إلى أن يجد العالم طريقة أخلاقية لإشباع حاجته إلى هذه المعادن، سيبقى الطين السام لبانغوا هو السعر المدفوع لتشغيل محركات "الاقتصاد الأخضر".
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ“أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية”، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
لينكد إن.. عملاق الشبكات المهنية في قلب تحولات الاقتصاد المعرفي
29 يوليو 2025 04:14 ص
الدين السيادي لا يصوت، دروس قاسية لترامب من أرقام الاقتصاد الأمريكي
28 يوليو 2025 08:16 م
4.4 تريليون دولار، شركات اليونيكورن تحت المجهر.. من يقود السوق العالمي للابتكار 2025؟
28 يوليو 2025 07:12 م
أكثر الكلمات انتشاراً