7 أشهر في العدم، قصة سوفيتي عاد بعدما تغيًر العالم
الخميس، 03 يوليو 2025 08:38 ص

السوفيتي الأخير
في أحد أكثر المشاهد السوداوية بالتاريخ الحديث، كان رجل واحد يطوف حول الأرض بسرعة 7.7 كيلومتر في الثانية، بينما العالم الذي تركه خلفه يتغير بشكل لا يمكن تخيله.

سيرجي كريكاليف لم يكن فقط رائد فضاء يؤدي مهمة علمية في محطة "مير"، بل أصبح رمزًا للاضطراب السياسي، والخذلان البشري، والعزيمة الخارقة التي يمكن أن يتمتع بها إنسان وجد نفسه وحيدًا في مواجهة العدم.
رحلة بدأت في نظام وانتهت في آخر
انطلق كريكاليف إلى الفضاء في مهمة روتينية لا تتجاوز مدتها شهرًا، كجزء من بعثة علمية برفقة زملائه من بريطانيا والاتحاد السوفيتي، ولكن لم يكن يعرف أحد أن هذه المهمة ستتزامن مع لحظة محورية في التاريخ الحديث، سقوط الاتحاد السوفيتي.
عندما حاول الانقلابيون في أغسطس 1991 إزاحة ميخائيل جورباتشوف وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء، خرج بوريس يلتسن على متن دبابة ليعلن ولادة روسيا الجديدة.
وبينما كانت الدبابات تحتشد في شوارع موسكو، كانت "مير" تسبح في الفضاء، محملة بآمال قديمة لنظام لم يعد موجودًا.
وهنا يظهر التناقض الصارخ، كانت مير تحمل شعار المطرقة والمنجل، رمز القوة الشيوعية، لكنها باتت دون مالك فعلي، وكأن الأرض تخلت عن صناعتها، وتركت إنسانًا وحيدًا يواجه المجهول.

الوحدة على ارتفاع 350 كيلومترًا
الوحدة التي عاشها كريكاليف لم تكن مجرد عزلة جسدية، فقد تم التخلي عنه فعليًا من قبل وطنه، الذي تفكك، وتركه معلقًا بين النجوم في انتظار من يتذكره.
الحياة في "مير" لم تكن نزهة علمية، بل كانت صاخبة، خانقة، ضيقة، ومليئة بالميكروبات، وفي ظل هذه الظروف الصعبة، كان عليه أن يتعامل مع واقع أكثر قسوة، لا أحد يعرف متى سيعود، أو حتى إن كان سيعود.
الوضع الاقتصادي في روسيا لم يكن يسمح بإعادته، كانت الدولة الوليدة تبيع معداتها الفضائية لسداد ديونها، وأخبرته الحكومة صراحة أنه لا يوجد مال كافي لتمويل عملية عودته، وهكذا أصبح كريكاليف ضحية لمعادلة سياسية واقتصادية، نُظر إليه كعبء لا أولوية.
اقرأ أيضًا:
صناعة الدفاع والفضاء، هل يحل الذكاء الاصطناعي معادلة الطموح بلا جدوى؟
مواطن دولة اختفت
ربما يكون أكثر ما يثير القشعريرة في هذه القصة هو البعد الرمزي لرحلة كريكاليف، رجل صعد كمواطن سوفيتي، وعاد ليجد بلاده قد اختفت.
المدينة التي وُلد فيها أصبحت تحمل اسمًا آخر، والعملة التي كان يتقاضاها لم تعد متداولة، والنظام الذي صعد بفضله إلى الفضاء قد انهار.
هذا التحول لا يشكل فقط أزمة هوية شخصية، بل أزمة وجودية لإنسان ظل معلقًا في نقطة خارج الزمن، إنه الدليل الحي على أن التغيرات الكبرى يمكن أن تحدث ونحن غائبون عنها جسديًا، ولكننا نظل ندفع ثمنها.

التدخل الألماني.. إنقاذ رائد وليس فقط إنقاذ وجه
عندما قررت ألمانيا الغربية دفع 24 مليون دولار لإعادة كريكاليف، لم تكن تفعل ذلك بدافع الرحمة فقط، بل أيضًا لحسابات رمزية ودبلوماسية.
أن يتم إنقاذ رائد فضاء على مرأى ومسمع من العالم هو أمر له بعد إعلامي ضخم، لكن رغم كل الأضواء، عاد كريكاليف إلى الأرض مرهقًا، شاحبًا، غير قادر على المشي، أشبه بجسد هش خرج من تجربة لا تشبه أي شيء آخر.
لقد أصبح الرائد الوحيد الذي تغيرت جنسيته أثناء وجوده في الفضاء، وسُجل في التاريخ كـ"السوفيتي الأخير".
اقرأ أيضًا:
سباق نحو الكوكب الأحمر، حين يتحول الفضاء إلى حلبة استثمار.. من يدفع ثمن الرحلة إلى المريخ؟
رغم كل شيء.. عاد إلى السماء
لعل المدهش في هذه القصة أن كريكاليف لم يتخلي عن حلم الفضاء، بل عاد إليه أربع مرات، وشارك لاحقًا في جهود محاولة إنقاذ "مير"، ثم أصبح مسؤولًا كبيرًا في مركز تدريب رواد الفضاء، مشاركًا في تخريج جيل جديد من الحالمين، كما مثل روسيا في دورة الألعاب الأولمبية الشتوية، حاملًا علم بلد كان يومًا ما امتدادًا لحلم لم يكتمل.
وفي مفارقة أخيرة، تشير قوانين النسبية إلى أنه بسبب سرعته وانفصاله عن الأرض، عاد إلى الأرض أصغر بـ0.02 ثانية مما لو بقي عليها.
لحظة فارقة فيزيائيًا، لكنها تعكس بعمق أن الرجل قد سافر فعلًا عبر الزمن لا فقط بسبب العلم، بل بسبب الزمن السياسي والاجتماعي الذي مزق كل ما عرفه سابقًا.

السوفيتي الأخير.. لا أحد يتذكره
في ذاكرة الشعوب، يظل يوري جاجارين هو البطل الأسطوري، أول من اخترق حاجز الأرض، أما كريكاليف، فقد بقي في الظل، رغم أنه سبقه بالتحمل والمعاناة والصبر والرمزية.
لكن الحقيقة التي لا يمكن نفيها أنه كتب فصلًا استثنائيًا في تاريخ الفضاء، رجل غادر وطنًا وعاد إلى عالم آخر، لا يشبه ما تركه، وكأنما خرج من رواية خيال علمي، إلا أن قصته حقيقية تمامًا.
كريكاليف لم يكن فقط رائد فضاء، كان شاهدًا، وضحية، وبطلًا، وغريبًا في عالم صنعه بنفسه، وربما، أكثر من أي أحد آخر، يستحق أن يُذكر في صفحات التاريخ لا كمجرد "رائد"، بل كـ"الرائد الذي لم تعد له أرض يعود إليها".
تابع موقع إيجي إن عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، بالإضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ 24 ساعة، لـ أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
بعد "فضيحة خداع المستهلكين"، «شي إن» تواجه تضييق أوروبي لـ"الأزياء السريعة"
03 يوليو 2025 05:47 م
كيف تُزعزع سياسات ترامب مكانة واشنطن الاقتصادية؟
03 يوليو 2025 07:11 ص
«الدارك ويب», جريمة منظمة في قلب الاقتصاد الرقمي
03 يوليو 2025 02:20 ص

أكثر الكلمات انتشاراً