الإثنين، 15 ديسمبر 2025

04:39 م

مي المرسي تكتب: هل للفن قواعد؟.. بين السؤال والضرورة

الإثنين، 15 ديسمبر 2025 12:29 م

الصحفية مي المرسي

الصحفية مي المرسي

بقلم- مي المرسي

سألني الأستاذ محمد طنطاوي، الصحافي والاقتصادي، وهو ينتظر منّي إجابةً واضحةً وحاسمة.. ما هي قواعد وشروط العمل الفني؟.

لم يكن السؤال عابرًا، بل أُلقي في المساحة بيننا كأنه يطلب حسمًا نهائيًا، أو تعريفًا قاطعًا، أو جملة تُقال بثقة تشبه قولنا في البداهة الحسابية إن واحدًا زائد واحد يساوي اثنين!،  وللوهلة الأولى، قلت له إننا إذا استطعنا أن نضع تعريفًا حاسمًا للفن، أمكننا -  نظريًا -  أن نضع تعريفًا لشروطه وقواعده، غير أن السؤال ما لبث أن تكرّر، فتوقّفت لحظة، لا لأنني أجهل الإجابة، بل لأنني شعرت أن السؤال نفسه أكبر من أي إجابة جاهزة، على الرغم من الجدل الظاهر بيننا.

فمنذ اللحظة الأولى التي حاول فيها الإنسان أن يترك أثره على جدار كهف، أو أن يروي حكاية حول نارٍ مشتعلة، كان الفن حاضرًا بوصفه فعلًا إنسانيًا أصيلًا، سابقًا على التنظير، وأقدم من كل محاولة للتقعيد أو التصنيف، ومن هنا يعود السؤال، قديمًا ومتجدّدًا.. هل للفن قواعد؟ أم أن القواعد طارئة عليه، لاحقة لوجوده، مفروضة من خارجه؟

يبدو السؤال بسيطًا في ظاهره، أستاذي، لكنه يخفي خلفه شبكةً معقّدة من التصورات الفلسفية والجمالية، ويتصل اتصالًا مباشرًا بفهمنا للحرية، والمعنى، والإنسان نفسه، وما إن حاولت البحث عن إجابة، حتى وجدتني أعود إلى جوهر الفن ذاته، وأسأل نفسي سؤالًا حاسمًا: هل يمكن للفن أن يُختزل في تعريفٍ مُحكم، أو معيارٍ قاطع، أو معادلة يقينية؟ أم أن قيمته كامنة في هذا القلق بالذات، في كونه فعلًا مفتوحًا على التجربة، والاختلاف، وإعادة الاكتشاف؟

ثم إن القاعدة، في معناها الدقيق، ليست قانونًا طبيعيًا ولا حقيقةً أزلية، بل هي اتفاقٌ إنسانيٌّ جمعي، تشكَّل عبر التكرار والتجربة ومحاولات الفهم والتنظيم، فالقاعدة لا تسبق الظاهرة، بل تُستنبط منها بعد أن تستقر، وبعد أن يهدأ قلق الاكتشاف الأول، ومن ثمّ، فالقواعد في الفنون ليست مولِّدة للإبداع، وإنما واصفة له، ومؤطِّرة لمرحلة من مراحله، لا أكثر.

الفن، في جوهره، فعلٌ حرّ، غير أن الحرية هنا لا تعني الانفلات ولا الفوضى، بل القدرة على الخلق، والتجاوز، وإعادة ترتيب الحساسية الإنسانية تجاه العالم، ويخبرنا تاريخ الفنون أن كل فنٍّ يبدأ حرًّا، ثم يُقعَّد، ثم يُكسَر تقعيده، لا عبثًا، بل باسم حساسية جديدة، ورؤية مغايرة، وضرورة تعبيرية مختلفة، وهكذا تتقدّم الفنون لا بالالتزام الأعمى بالقواعد الذي وضعتها واصطلاحا عليها الجماعة، ولا بهدمها الشامل، بل بالحوار الدائم معها.

ولعلّ تجربة وليام شكسبير تقدّم مثالًا فادح الدلالة، فشكسبير لم يكتب مسرحه خضوعًا لوحدات أرسطو الثلاث، بل خالفها بوعي أو بغير وعي؛ كسر وحدة الزمان، وتحرّك بحرية في المكان، وخلط المأساة بالملهاة، وترك لشخصياته أن تتكلم بلسان الحياة لا بلسان التنظير، ومع ذلك، لم يُتَّهَم عمله بالفوضى، بل صار هو نفسه نموذجًا، وصارت أعماله مناجم تُستخرج منها القواعد لاحقًا، الإبداع هنا سابق على التقعيد، لا نتاجًا له.

وإذا عدنا إلى أرسطو وأفلاطون، وجدنا أن كليهما لم يكن مشرِّعًا للفن بقدر ما كان محلّلًا له، فأرسطو، في كتابه «فن الشعر»، لم يخترع التراجيديا، ولم يضع قانونًا ملزمًا للشعراء، بل وصف ما رآه قائمًا في المسرح الإغريقي، واستخلص سماته الغالبة، غير أن سوء الفهم التاريخي حوّل هذا الوصف إلى تشريع، والتحليل إلى معيارٍ قاسٍ يُحاسَب عليه الإبداع.

أما فن الحكي، بوصفه أقدم الفنون الإنسانية، فيكشف بوضوح زيف الادعاء القائل إن الفن يولد من القاعدة، فالإنسان حكى قبل أن يعرف معنى الحبكة، والراوي، وبنية السرد،  الحكاية الشعبية، والأسطورة، والسير، وحواديت الجدّات، كلها وُلدت من الحاجة إلى المعنى، وإلى تفسير العالم، وإلى بثّ الحكمة والخوف والدهشة، لم يضع أحدٌ قواعدها، ومع ذلك امتلكت نظامها الداخلي، وإيقاعها، وقدرتها على البقاء.

والأمثال الشعبية شاهدٌ آخر لا يُدحض، لم يُنشئها نقّاد، ولم يضبطها عَروضيون، ومع ذلك جاءت مكثفة، موحية، حادّة الدلالة، شديدة الرسوخ، وكذلك أغاني السمسميّة، الخارجة من وجدان الجماعة، من العمل، والبحر، والمقاومة؛ لم تُكتب وفق نوتة موسيقية ولا نظرية لحنية، لكنها امتلكت إيقاعها الخاص، وصدقها، وطاقتها التعبيرية.. هنا كانت التجربة هي القاعدة، وكان الوجدان الجمعي هو الحَكَم.

ومن هنا، فإن كسر القاعدة لا يعني بالضرورة هدم الفن، كما أن الالتزام الصارم بها لا يضمن قيمته، فالفوضى تبدأ حين يُلغى كل معيار، ويُستباح كل شيء بلا وعي جمالي ولا ضرورة فنية، أما التجاوز الخلّاق، فهو الذي يُنتج شكلًا جديدًا، قادرًا على إثارة الانفعال، وخلق المعنى، وفتح أفق للتجربة الإنسانية.

أما الجمال، وإن كان يُدرَك عبر خبرة ذاتية، فإنه لا ينتمي إلى الاعتباط، فالذاتية الجمالية لا تعني أن كل شيء سواء، بل تعني أن الانفعال نقطة البداية، لا نقطة النهاية، ووظيفة النقد ليست أن يفرض الإعجاب، بل أن يعلّم الرؤية، وأن يكشف ما قد تخفيه العين غير المدرَّبة، ومن هنا تتأسس إمكانية الحوار الجمالي، لا الفوضى الذوقية.

وفي النهاية أستاذي الفن لا يولد من القواعد، ولا يعيش بلا نظام داخلي.. القاعدة أثرٌ من آثار الفن، لا جوهره.. تتشكّل حين يستقر، وتُكسَر حين يشيخ، وبين الاستقرار والشيخوخة، يظل الفن فعلًا إنسانيًا حرًّا، مشدودًا إلى التجربة، وإلى القدرة على التعبير، وإلى صدق الانفعال.

أستاذي العزيز الفن الحقيقي لا يسأل، هل هناك قاعدة أو شروط أو هل التزمتُ بالقاعدة؟ بل يسأل.. هل أضفتُ معنى؟ هل فتحتُ أفقًا؟ هل قلتُ ما يستحق أن يُقال؟.. والسلام.

Short Url

search