العاصفة تضرب "جيب"، كيف تحولت أيقونة أمريكا إلى ضحية التحولات المربكة؟
الإثنين، 27 أكتوبر 2025 09:05 ص
سيارة جيب
لم تكن “جيب” يومًا مجرد سيارة، بل كانت تجسيدًا لفكرة الحرية الأمريكية، ذلك الحس بالتمرد والانطلاق في الطرق الوعرة الذي ألهم أجيالًا كاملة من السائقين منذ الحرب العالمية الثانية.
لكن المفارقة أن هذه العلامة التي ولدت في قلب الحرب، بدأت تخسر معركتها في زمن السلام الاقتصادي المضطرب، بين يدي تكتل ضخم اسمه “ستيلانتيس” ورئيس تنفيذي مهووس بالأرباح، قبل أن تكمل السياسة، ممثلة برسوم ترامب الجمركية، الحلقة الأخيرة من سلسلة سقوطها.
من مجد "رانجلر" إلى ارتباك التحول الكهربائي
في الذاكرة الجماعية للأمريكيين، لا تزال صور رانجلر بلا سقف وهي تشق الجبال والغابات جزءًا من الحلم الوطني، غير أن الحلم بدأ يتصدع مع دخول جيب عقدها الأكثر صعوبة.
فعندما اندمجت “فيات كرايسلر” مع مجموعة “بي إس إيه” الفرنسية لتشكلا “ستيلانتيس” عام 2021، كان يُفترض أن تكون “جيب” جوهرة التاج، القادرة على تمويل التحول الكهربائي الباهظ عبر مبيعاتها القوية في السوق الأمريكية، لكن ما حدث هو العكس تمامًا.
رفع الرئيس التنفيذي كارلوس تافاريس الأسعار إلى مستويات غير مسبوقة، وركز الإنتاج على الطرازات الفاخرة مثل “جراند واجونير” التي تجاوز سعرها 100 ألف دولار، متجاهلًا الفئة المتوسطة التي صنعت مجد العلامة لعقود.
والنتيجة، فجوة في السوق وركود في المبيعات، ترافق مع تراجع ولاء المستهلكين الذين وجدوا بدائل أرخص وأكثر تقنية من “فورد” و“هيونداي”.
_1787_091608.jpg)
هوس الأرباح والنتائج السريعة
على الورق، بدت استراتيجية تافاريس ناجحة، فقد قفزت أرباح “ستيلانتيس” في أول عام بعد الاندماج، واحتفى المستثمرون بهوامش ربح هي الأعلى في ديترويت.
لكن هذا النجاح المالي السريع كان كمن يبني بيتًا على رمال متحركة، فالهوس بخفض التكاليف دفع تافاريس إلى تسريح أكثر من 50 ألف عامل حول العالم، واستبدال مهندسين متمرسين بآخرين في أسواق منخفضة الكلفة.
كما ضغط على الموردين حتى حافة الإفلاس، وقلص الإنفاق على تطوير الطرازات الجديدة، ومع مرور الوقت، انعكس هذا النهج على جودة المنتجات وسرعة طرحها في الأسواق، فبدأت خطوط التجميع تتباطأ، والابتكار يتراجع، والزبائن يغادرون بصمت.
اقرأ أيضًا:
بطارية تغيّر خريطة الاقتصاد العالمي، الزلزال الصيني يهزّ صناعة السيارات الكهربائية
جون إلكان بين إرث الأجداد وضغوط المستقبل
وسط هذه الفوضى، كان جون إلكان، حفيد مؤسس “فيات”، يعيش صراعًا من نوع آخر، فهو الوريث الذي أراد أن يحدث توازنًا بين إرث الصناعة الثقيلة للعائلة وبين طموحها للانخراط في مجالات التقنية والذكاء الاصطناعي.
لكن “ستيلانتيس” كانت عبئه الأثقل، ومع انهيار أرباحها في منتصف 2024، وجد نفسه مضطرًا لإقالة تافاريس واستعادة السيطرة المباشرة، إلا أن ما واجهه لم يكن مجرد أزمة إدارة، بل أزمة هوية كاملة لعلامة عريقة فقدت بوصلتها في عالم لم يعد يعشق البنزين كما في الماضي، ولا يثق تمامًا بالكهرباء كبديل نهائي.
وفي خضم البحث عن رئيس تنفيذي جديد، اكتشف إلكان أن القليل فقط من كبار التنفيذيين يرغبون في تولي المنصب، والمنصب بدا أشبه بمنطقة كوارث اقتصادية وسياسية مفتوحة، بين لوائح أوروبية متشددة ورسوم أمريكية متقلبة وسباق صيني لا يهدأ.

رسوم ترامب.. القشة التي قصمت ظهر “جيب”
في مطلع 2025، ومع عودة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، تلقت “جيب” الضربة الأخيرة، فقد فرض الرئيس الأمريكي رسومًا بنسبة 25% على الواردات من كندا والمكسيك، وهما رئتا “ستيلانتيس” الإنتاجيتان في أمريكا الشمالية.
توقف الإنتاج في مصانع كندية ومكسيكية، وتكدست السيارات في المخازن، فيما اضطر أنطونيو فيلوسا، الرئيس التنفيذي الجديد القادم من أمريكا الجنوبية، إلى تجميد إطلاق طرازات رئيسية مثل “كومباس” و“تشيروكي”.
تحدثت تقديرات الشركة عن خسائر تتجاوز 1.5 مليار دولار في 2025، لكن التأثير الحقيقي كان أعمق: تعطل سلاسل التوريد، وارتفعت أسعار السيارات أكثر، وتآكلت الثقة داخل شبكة وكلاء "جيب" الذين رأوا في الرسوم ذريعة تخفي سوء الإدارة المزمن.
اقرأ أيضًا:
المضمار تحول لمنصة تسويق، الاستثمار في سباقات السيارات بحثًا عن الجماهير
محاولة إنقاذ متأخرة
مع تعيين فيلوسا، حاولت “ستيلانتيس” قلب الصفحة، وخُفضت الأسعار، وجرى تفعيل خطط لتحديث الطرازات، وأعيد بعض كبار التنفيذيين الذين غادروا في عهد تافاريس.
كما لجأ فيلوسا إلى وقف مؤقت للإنتاج لتصريف المخزون الراكد، وأعاد محركات البنزين “هيمي” الشهيرة في محاولة لاستمالة الزبائن التقليديين.
لكن الإصلاح يحتاج وقتًا ومالًا، وهما الموردان الأكثر ندرة في هذه المرحلة، فالشركة التي كانت قيمتها تفوق 90 مليار دولار قبل سنوات قليلة، باتت تكافح لتجنب خسائر فصلية تتجاوز المليارات، فيما تتآكل حصتها السوقية في أمريكا وأوروبا معًا.

“جيب”.. أكثر من أزمة سيارات
ما يحدث لـ“جيب” يتجاوز حدود شركة أو علامة تجارية، إنها مرآة لأزمة أوسع تضرب الصناعة الغربية:
صراع بين الرؤية القديمة والجديدة، وبين محركات البنزين التي لا تموت بسهولة والسيارات الكهربائية التي لم تولد بعد بالشكل التجاري المربح.
تصادم السياسات، حيث تفرض واشنطن رسومًا لحماية الوظائف بينما ترفع بروكسل القيود البيئية لتقليل الانبعاثات، لتجد شركات مثل “ستيلانتيس” نفسها ممزقة بين ضغطين متناقضين.
تغير في الثقافة الاستهلاكية، إذ لم يعد الشباب الأمريكي يرى في “جيب” رمزًا للمغامرة، بل سيارة مكلفة وصاخبة في عصر يبحث فيه المستهلك عن الهدوء والكفاءة والتقنية الذكية.
اقرأ أيضًا:
بين الحلم والحقيقة، لماذا لم تتحقق السيارات النووية حتى الآن؟
الوجهة التالية لإلكان
رغم انخراطه المتجدد في إنقاذ “ستيلانتيس”، يبدو أن جون إلكان يستعد لفصل جديد من تاريخه العائلي بعيدًا عن هدير المصانع.
فقد باع حصصًا من شركات النقل، وضاعف استثماراته في التقنية والرعاية الصحية، وانضم إلى مجلس إدارة ميتا، في إشارة إلى انتقال تركيزه من الحديد والزيت إلى البيانات والذكاء الاصطناعي، لكن إرث العائلة، المولود في مصانع تورينو قبل 126 عامًا، ما زال يلقي بظلاله عليه، فـ“جيب” ليست مجرد أصل مالي ضمن محفظة “إكسور”، بل قطعة من التاريخ الصناعي الذي كان يومًا ما مرادفًا لعبقرية الصناعة الأوروبية الأمريكية المشتركة.

هل يمكن إحياء الأسطورة؟
الأساطير لا تموت بسهولة، و“جيب” ربما فقدت بريقها، لكنها لا تزال تمتلك ما يكفي من الرمزية لتنهض من جديد، وإعادة إحيائها تتطلب أكثر من تقليص نفقات أو حملة تسويقية، وتتطلب رؤية جديدة تعيد صياغة معنى الحرية في القرن الحادي والعشرين، حرية مستدامة، وذكية، ومتصالحة مع البيئة، من دون أن تفقد روح المغامرة التي جعلتها أسطورة في المقام الأول، وإلى أن يتحقق ذلك، ستبقى “جيب” درسًا في الاقتصاد الحديث: كيف يمكن أن تسقط الطموحات المالية قصيرة الأمد، والسياسات التجارية المتقلبة، واحدة من أكثر العلامات التجارية عشقًا في تاريخ السيارات.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
ممر جديد للتقارب، استئناف الطيران يفتح آفاقًا اقتصادية وسياسية كبرى بين الهند والصين
27 أكتوبر 2025 11:10 ص
من منصة القضاء إلى قاعة التشريع، حسني عبد اللطيف يقود اللجنة الدستورية بالشيوخ
26 أكتوبر 2025 03:01 م
"القائمة السوداء" وسباق المعادن النادرة يُشعلان جبهة جديدة بين واشنطن وبكين
26 أكتوبر 2025 11:00 ص
أكثر الكلمات انتشاراً