الدكتور محمد فؤاد يكتب.. «بين الرؤية والسردية» من يعيد ضبط بوصلة التخطيط في مصر؟
السبت، 07 يونيو 2025 10:57 م

الدكتور محمد فؤاد
منذ الإعلان عن “السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية”، دخل الخطاب الحكومي مرحلة جديدة تحاول أن تُعيد تقديم أولويات الدولة الاقتصادية في ضوء متغيرات محلية ودولية ضاغطة.
لكن وسط عبارات منمقة حول التنافسية، وتمكين القطاع الخاص، وتحقيق التوازن بين الاستقرار والتحفيز، غاب سؤال جوهري: ما الذي نعالجه فعلاً؟ وما موقع “السردية” داخل المنظومة الكلية للتخطيط في مصر؟
الواقع أن هذا التحول الخطابي، رغم وجاهته الظاهرية، يضعنا أمام أزمة بنيوية في التخطيط العام، تتعلق ليس فقط بتضارب الأطر، بل بفقدان التراتبية المؤسسية، وانسحاب الجهات المختصة – وعلى رأسها وزارة التخطيط – من مركز الفعل الاقتصادي.
رؤية 2030، المشروع الذي لم يُنفذ… ولم يُراجع
رؤية مصر 2030، التي انطلقت في 2016، كانت تمثل أول محاولة لبناء إطار استراتيجي وطني طويل الأجل، على غرار تجارب الدول التي سبقتنا في مسارات التحول (من السعودية إلى ماليزيا). لكنها تحوّلت تدريجيًا إلى وثيقة استعراضية، تُستخدم في المناسبات، بينما فشلت برامج الحكومة المتعاقبة في ترجمة محاورها إلى سياسات ملزمة أو مؤشرات أداء تنفيذية.
على مدار ثماني سنوات، لم نرَ:
- مراجعة دورية للإنجاز مقابل الأهداف.
- ربطًا فعليًا بين الرؤية وموازنات الدولة.
- مساءلة حكومية أو برلمانية حول نسب التقدم.
النتيجة؟ بُنيت السياسات التنفيذية في عزلة عن الرؤية. وتحركت الاستثمارات، والمشروعات القومية، والسياسات النقدية، دون مظلة استراتيجية حقيقية.
البرنامج الحكومي.. استجابة ظرفية لا خارطة طريق
منذ 2018 وحتى برنامج الحكومة الأخير، اتسمت البرامج التنفيذية بأنها ظرفية، مرتبطة برد الفعل لا بالفعل الاستباقي، تركز على “حل الأزمات” لا “توجيه الاقتصاد”. ولم يُقدَّم أي برنامج باعتباره ترجمة عملية لمحاور رؤية 2030، بل ظهر دائمًا كوثيقة منفصلة، محملة بأهداف عامة وشعارات جزئية.
بل إن معظم “المؤشرات” الواردة في البرامج الحكومية لم تكن متسقة مع أهداف الرؤية، لا من حيث القطاعات المستهدفة، ولا الأطر الزمنية، ولا حتى أدوات التنفيذ.
السردية الوطنية.. غلاف أنيق لخواء مؤسسي؟
هنا تدخل “السردية الوطنية” كوثيقة جديدة، تبدو في ظاهرها محاولة للتصحيح، لكنها – حتى اللحظة – تُقدَّم دون تحديد ما يلي:
- هل هي مراجعة لرؤية 2030؟
- هل هي إطار بديل للبرنامج الحكومي؟
- أم أنها وثيقة تنسيقية تحاول سد الفراغات دون الاعتراف بوجودها أصلًا؟
خطر هذه الضبابية ليس أكاديميًا فقط، بل تنفيذيّ بامتياز. فوجود أكثر من إطار استراتيجي دون تراتبية واضحة يعني تشظيًا في صنع القرار، وتضاربًا في التوجهات، وغيابًا للرقابة والمساءلة.
والأسوأ من ذلك: أن يتحول “مفهوم السردية” من أداة تصحيح إلى “غلاف لغوي” لمواصلة السياسات نفسها، دون مراجعة حقيقية أو تصحيح للمسار.
وزارة التخطيط.. الغائب الحاضر
وسط كل هذا، على مدار سنوات، تراجع دور وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية من كونها جهة “قائدة” لسياسات الدولة إلى مجرد “شريك دولي” في ملفات التعاون مع المؤسسات الخارجية.
الوزارة والتي يُفترض أن تمثل العقل المؤسسي لصياغة الأهداف، وقياس الأداء، وتحديث الرؤية أصبحت تعمل في الظل، بينما يُدار الملف الاقتصادي من خارجها، وبخطابات متعددة.
وفي ظل غياب مركز تخطيط فاعل، تصبح أي سردية، مهما حسنت نواياها، غير قادرة على التأثير في آليات صنع السياسات، ولا تمتلك أدوات تنفيذية لضبط البوصلة أو توجيه الإنفاق العام.
المطلوب: تمكين وزارة التخطيط… أو لا سردية من الأساس
و لأمانة الطرح، فإن وزير التخطيط الحالية الدكتورة رانيا المشاط تملك الخلفية الفنية والدولية التي تؤهلها لتقود عملية إعادة هندسة التخطيط في مصر.
لكنها تحتاج – لا إلى سردية جديدة – بل إلى صلاحيات واضحة، ومساحة فعل حقيقية، وآلية ربط مباشرة بين رؤى الدولة واستثماراتها.
السردية الوطنية لن تنجح من دون عقل تخطيطي مستقل ونافذ، والوزارة لا تزال مؤهلة لذلك إن أُعيد الاعتبار لدورها
لذلك إذا أُريد للسردية الوطنية أن تتجاوز كونها غلافًا تسويقيًا، فلا بد من إعادة الاعتبار لوزارة التخطيط كجهة تنسيقية وضابطة للإطار الاستراتيجي للدولة. ويجب أن يصاحب هذا التمكين خطوات عملية:
- إعلان العلاقة المؤسسية بين الرؤية، السردية، والبرنامج الحكومي.
- إلزام الوزارات بإعداد موازناتها وفق أولويات متسقة مع السردية.
- إصدار تقرير سنوي عن نسبة التقدم في تنفيذ الأهداف.
- منح وزارة التخطيط صلاحية رقابية فعلية على الاستثمارات العامة.
لست ضد السردية، بل بالعكس، اريدها حية ومؤثرة، لكنها لن تصبح كذلك بمجرد الخطاب.
إن لم يتم تصحيح موضعها ضمن منظومة التخطيط، وإن لم تُستعاد وزارة التخطيط إلى قلب العملية الاقتصادية، فإننا لا نبني سردية… بل نواصل الاستعراض في صالة مغلقة بلا جمهور.
Short Url
ليه أول ما الفائدة بتقل الناس بتجري على العقار؟
24 مايو 2025 02:59 م
أمين صالح يكتب.. اقتصاد مصر، نعم الأرقام تكذب حين تبطيء الحكومة
03 مايو 2025 02:16 م
محمد فؤاد يكتب: جهاز حماية المنافسة: ماذا كشف المؤتمر السنوي الثاني؟
29 أبريل 2025 10:40 ص


أكثر الكلمات انتشاراً