الخميس، 25 ديسمبر 2025

01:25 م

النائب محمد فؤاد يكتب: الدين العام والانخفاض التاريخي.. ما وراء الأرقام؟

الخميس، 25 ديسمبر 2025 11:20 ص

الدكتور محمد فؤاد

الدكتور محمد فؤاد

عاد ملف الدين العام إلى صدارة الخطاب الرسمي، هذه المرة مصحوبًا بتصريحات لافتة لرئيس مجلس الوزراء، أكد فيها أن الدولة تستهدف خفض حجم الدين إلى مستويات لم تشهدها مصر منذ نحو خمسين عامًا، مستندًا إلى تراجع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي من 96% قبل عامين إلى نحو 84% حاليًا، باعتباره مؤشرًا على تحسن المسار المالي.

ولم يقتصر الأمر على هذا التصريح، إذ أشار المستشار الإعلامي لرئيس الحكومة إلى أن خطة متكاملة لتخفيض الدين سيتم الإعلان عنها قريبًا، مؤكدًا أن المليارات المتوقعة من خفض أعباء الدين ستنعكس مباشرة على المواطنين، من خلال زيادة الدخول واستمرار تحسين مستوى الخدمات العامة.

الدين إلى الناتج المحلي

غير أن هذه التصريحات، على أهميتها، أثارت قدرًا من الالتباس في فهم المقارنة الزمنية التي أشار إليها رئيس الوزراء، خاصة أن الديون الخارجية المصرية قبل خمسة عقود كانت في حدود خمسة مليارات دولار فقط، بينما يبلغ الدين الخارجي حاليًا نحو 161 مليار دولار، وهو ما يجعل المقارنة الرقمية المباشرة غير منطقية من الناحية الاقتصادية.

المقصود طبعا ليس حجم الدين المطلق، وإنما نسبته إلى الناتج المحلي الإجمالي، وهو ما يفتح الباب لنقاش أوسع حول جدوى الاعتماد على هذا المؤشر باعتباره المعيار الحاسم للحكم على سلامة الوضع المالي للدولة، ومدى قدرته الفعلية على عكس تحسن حقيقي يشعر به المواطن، حتى في حال تسجيله أرقامًا إيجابية على الورق.

فالاقتصار على هذا المؤشر، الذي يقيس إجمالي ديون الدولة مقارنة إلى حجم إنتاجها الاقتصادي لتقدير قدرتها على السداد، لا يوفّر قراءة دقيقة للواقع، خاصة في الحالة المصرية، بل قد يكرّس شعورًا زائفًا بالاطمئنان، في حين تظل مصادر الخطر الحقيقية كامنة أسفل السطح.

تعبئة الموارد: أزمة مصر الحقيقية

فالناتج المحلي الإجمالي في جوهره ليس موردًا ماليًا بيد الدولة، ولا خزانة تُسدد منها الديون أو تُموّل بها النفقات، بل هو قيمة مضافة تتولد داخل الاقتصاد ككل، فالحكومة لا تنفق من الناتج المحلي، ولا تسدد فوائد أو أقساط دين من أرقامه الاسمية، لكن ما يحدد قدرة الدولة الفعلية على الاستمرار هو حجم إيراداتها العامة، وما يكشف مستوى المخاطر هو كلفة خدمة الدين مقارنة بهذه الإيرادات، لا مقارنة الدين بحجم الاقتصاد في صورته المجردة.

وهنا تحديدًا تتسع الفجوة بين الرقم الذي يُتداول في الخطاب الرسمي، والمعنى الاقتصادي الذي ينبغي أن يُفهم عند تقييم سلامة المسار المالي وتأثيره الحقيقي على حياة المواطنين، حتى لا يكون شعورا بالإنجاز في حين أن الواقع يخالف ذلك. 

أعلم أن الصورة قد تبدو للوهلة الأولى، أقل حدة عن تقديرات المتخصصين، إذ تدور نسبة الدين الحكومي حول 90% من الناتج المحلي الإجمالي بعد أن تجاوزت حاجز 100% في سنوات سابقة، غير أن هذه القراءة السطحية سرعان ما تتبدل عند التعمق في بنية الموازنة العامة.

فالإيرادات العامة لا تزيد على 12 إلى 13% من الناتج المحلي الإجمالي، وهي نسبة تُعد من بين الأدنى عالميًا وإفريقيًا، بل وأقل من دول ذات مستويات دخل أدنى وهشاشة اقتصادية أعلى، لكنها نجحت رغم ذلك في تعبئة مواردها السيادية بكفاءة أكبر.

وفي مقابل ذلك، يستحوذ الدين على أكثر من 65% الاستخدامات العامة، فيما تلتهم فوائد الدين وحدها نحو 88% من الإيرادات الضريبية، وهي مؤشرات كاشفة لحجم الضغط الواقع على المالية العامة، وتوضح ببساطة أن أي تحسن شكلي في نسبة الدين إلى الناتج المحلي لا يترجم بالضرورة إلى تحسن فعلي في القدرة المالية للدولة، ولا يفتح تلقائيًا مساحة أوسع للإنفاق التنموي أو تحسين أوضاع المواطنين.

الإشكالية الأعمق تكمن في أن نمو الناتج المحلي في مصر لا يترجم بالضرورة إلى قدرة حقيقية على السداد، فقد يحقق الاقتصاد معدلات نمو إيجابية، دون أن يصاحب ذلك توسع موازٍ في القاعدة الضريبية، أو زيادة مستدامة في موارد النقد الأجنبي، أو حتى ارتباط واضح بين الاقتراض والعائد الاقتصادي القابل للتحصيل فعليًا.

وفي هذا السياق، يفقد الدين وظيفته التنموية، ويتحول من أداة لتمويل النمو وتوسيع الطاقة الإنتاجية إلى وسيلة لسد فجوات قائمة، ويصبح تحقيق الفائض الأولي إنجازًا محاسبيًا في المقام الأول، يتحقق غالبًا عبر الضغط على بنود الإنفاق الاجتماعي والاستثماري، لا من خلال تحسين كفاءة الإنفاق أو تعظيم الإيرادات، وهو ما يتنافى مع قدرة هذا المسار تخفيف الأعباء عن المواطن. 

المقارنات الدولية

يتضح المشهد بصورة أدق عند إجراء مقارنات دولية، فبينما تُستدعى كثيرًا أمثلة لدول تبلغ فيها نسب الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي مستويات أعلى بكثير، ويُقدَّم ذلك باعتباره دليلًا على أن الوضع ليس مقلقًا، فإن هذه المقارنات، إذا أُخذت بمعزل عن سياقها الكامل، تصبح مضللة.

فاليابان، التي يتجاوز دينها 250% من الناتج المحلي، تجمع إيرادات عامة تفوق 35% من اقتصادها، وتتحمل تكلفة فائدة شبه صفرية، ويقع معظم دينها داخل النظام المالي المحلي.

إيطاليا كذلك، بدين يناهز 140% من الناتج، تمتلك قاعدة إيرادات تتجاوز 40% من الناتج المحلي، ونظامًا اجتماعيًا قادرًا على امتصاص أثر الدين على حياة المواطنين، وكذا فرنسا، بدين يفوق 110% من الناتج، تجمع إيرادات تزيد عن نصف اقتصادها، وتوفر خدمات عامة عالية الجودة تجعل الدين عبئًا مُدارًا لا أزمة معيشية.

الفارق الجوهري بين هذه الحالات والحالة المصرية ليس في حجم الدين، بل في قدرة الدولة على تحمّله دون تحميل المواطن التكلفة المباشرة، ففي الاقتصادات التي تبدو أرقام دينها مرتفعة، يعمل الدين كرافعة لتحسين الإنتاجية وجودة الحياة، أما في مصر، وبسبب ضعف الإيرادات وارتفاع تكلفة الاقتراض، يتحول الدين إلى عنصر ضغط دائم على الموازنة، ويُزاحم الإنفاق على التعليم والصحة والاستثمار العام.

الدين وجودة الحياة

والمواطن في النهاية لا يعيش داخل نسبة دين إلى الناتج المحلي، ولا يشعر بتحسن حقيقي حين تنخفض هذه النسبة.. ما يلمسه هو جودة الخدمات العامة، واستقرار الأسعار، وقدرة الدولة على الاستثمار في المستقبل.

وحين تستحوذ خدمة الدين على الجزء الأكبر من الموارد، يكون الثمن واضحًا في خدمات أقل، واستثمار مؤجل، وضغط متزايد على مستوى المعيشة، وعند هذه النقطة، يصبح الدين قضية جودة حياة بقدر ما هو قضية مالية يمكن التلاعب بها من خلال الأرقام دون الأثر.

إدارة الدين العام، إذن، لا تُقاس بتحسين مؤشر واحد، بل بإعادة بناء الإطار المالي ككل بتوسيع القاعدة الضريبية، ورفع كفاءة تحصيل الإيرادات، وخفض تكلفة الاقتراض، وإعادة توجيه الدين نحو أنشطة تولد دخلًا حقيقيًا للدولة، ومن دون هذا التحول، فسوف يظل الحديث عن تحسن نسب الدين حديثًا صحيحًا حسابيًا، لكنه يفتقر إلى المعنى الاقتصادي، ولا يترجم إلى تحسن ملموس في حياة الناس.

في النهاية، تبقى قابلية هذا الطرح للتحقق مرهونة بسؤال جوهري لم يتناوله الخطاب الرسمي حتى الآن: من أين سيأتي الخفض الحقيقي والمستدام للدين؟ من دون إجابة واضحة ومعلنة على هذا السؤال، يظل الحديث عن خفض تاريخي للدين وتحسن سريع في دخول المواطنين أقرب إلى سردية سياسية مريحة منه إلى برنامج اقتصادي قابل للتنفيذ. المشكلة ليست في وجاهة الهدف، بل في الفجوة بين ما يُقال وما تسمح به الحسابات، والأهم من ذلك في الفجوة الأوسع بين إدارة مالية مستقرة تُبنى على قواعد واضحة، و بين تخريجات ظرفية تُدار بمنطق اللحظة لا بمنطق الاستدامة.

Short Url

search