الأحد، 21 ديسمبر 2025

06:15 م

دكتور تامر مؤمن يكتب: التمويل المبني على البيانات وجيل جديد من الائتمان المصرفي للمشروعات الصغيرة

السبت، 20 ديسمبر 2025 01:41 م

دكتور تامر مؤمن

دكتور تامر مؤمن

في أدبيات الاقتصاد التقليدي، طالما نُظر إلى الاقتصاد غير الرسمي باعتباره "عبئاً ضريبياً" أو "ثقباً أسود" يلتهم موارد الدولة دون طائل، لكن اليوم، ومع نضوج التجربة الاقتصادية المصرية وبلوغنا نهاية عام 2025، لم تعد تلك النظرة القاصرة صالحة للتطبيق، إن صدور وتفعيل "القانون رقم 6 لعام 2025" لا يمثل مجرد تشريع إجرائي لدمج الكيانات الصغيرة، بل هو إعلان صريح عن "عقد اجتماعي إنتاجي" جديد، ينقل العلاقة بين الدولة وصغار المنتجين من مربع "الجباية والمطاردة" إلى مربع "الشراكة والتمكين الرقمي".

يشهد الاقتصاد المصري في عام 2025 تحولاً جذرياً يمكنني وصفه بـ "الثورة الصامتة"، حيث تتجه الدولة المصرية بخطى ثابتة ومدروسة نحو إعادة هيكلة العلاقة بين الإدارة الضريبية ومجتمع الأعمال، وتحديداً قطاع "المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر"، الذي طالما شكل العمود الفقري للاقتصاد غير الرسمي أو ما يعرف بـ "الاقتصاد الموازي". لم يعد التعامل مع هذا الملف يعتمد على الحملات الرقابية التقليدية أو سياسات الجباية القسرية التي أثبتت محدودية جدواها على مدار العقود الماضية، بل انتقلت الفلسفة التشريعية والاقتصادية نحو "الاحتواء الذكي" عبر منظومة حوافز متكاملة.

يأتي "القانون رقم 6 لسنة 2025" كحجر الزاوية في هذه الاستراتيجية الجديدة، مدعوماً بظهير تشريعي يتمثل في القانون رقم 5 لسنة 2025 الخاص بتسوية المنازعات، والقانون رقم 7 لسنة 2025 المعدل لقانون الإجراءات الضريبية، هذه الحزمة التشريعية لا تهدف فقط إلى زيادة الحصيلة الضريبية، بل تسعى لدمج كتلة نقدية واقتصادية ضخمة تقدر بتريليونات الجنيهات داخل القنوات الشرعية، مما يعزز من مؤشرات الاقتصاد الكلي، ويرفع معدلات النمو، ويحسن من التصنيف الائتماني للدولة والمشروعات على حد سواء.

لماذا أطلقت عليها اسم الثورة الصامتة؟ الإجابة بكل بساطة لأنه "رهان الكيف" وليس "رهان الكم"

 قد يبدو للوهلة الأولى أن خفض الضريبة إلى 1% أو 0.5% سيقلل الحصيلة، لكن المنطق الاقتصادي هنا يعتمد على "توسيع القاعدة" والحصول على 1% من ملايين المشروعات التي لم تكن تدفع شيئاً (صفر%) أفضل بكثير من فرض 22.5% على عدد محدود من الممولين، تستهدف الموازنة العامة زيادة الإيرادات الضريبية بنسبة نمو 35% في العام المالي 2024/2025 لتصل إلى مستويات قياسية تتجاوز 2.6 تريليون جنيه، معولين بشكل كبير على انضمام شرائح جديدة من الممولين.

وأيضا تتوقع وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي أن يساهم دمج الاقتصاد غير الرسمي في دفع معدلات النمو الاقتصادي لتتجاوز 5.3% في الأعوام المالية المقبلة، دمج كتلة نقدية تقدر بـ 4 تريليونات جنيه يعني زيادة في حجم الناتج المحلي الإجمالي الرسمي، مما يقلل من نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي ويحسن المؤشرات المالية للدولة أمام المؤسسات الدولية.

في البداية، دعونا نعيد تعريف المصطلحات؛ فما كنا نطلق عليه "اقتصاد الظل"، هو في الحقيقة "احتياطي استراتيجي موازي" 

أثبتت الأزمات العالمية المتتالية أنه خط الدفاع الأول عن الأمن الغذائي والاجتماعي للمصريين. الأرقام الحديثة تشير إلى أن نسبة الشمول المالي التي لامست سقف الـ 76.3% بنهاية يونيو الماضي لم تكن مجرد مؤشر كمي، بل كانت البنية التحتية الرقمية التي مهدت الطريق لتحويل "البصمة النقدية" لهذه الكيانات إلى "أصول معلوماتية" قابلة للتسييل.

إن فلسفة القانون الجديد تتجاوز فكرة "الترخيص" الورقي، لتؤسس لمفهوم جديد أطلقت علية "المواطنة الاقتصادية الرقمية"؛ حيث تُمنح المنشأة الصغيرة "هوية رقمية" تمكنها من النفاذ للأسواق والتمويل، مقابل التزامها بالمعايير البيئية والإنتاجية. نحن هنا نستبدل "عصا العقوبات" بـ "مظلة الحماية التأمينية والتمويلية".

يمثل القانون رقم 6 لسنة 2025 "بشأن بعض الحوافز والتيسيرات الضريبية للمشروعات التي لا يتجاوز حجم أعمالها السنوي عشرين مليون جنيه" وأيضا ليلغي المواد من (85) إلى (99) من قانون تنمية المشروعات المتوسطة والصغيرة ومتناهية الصغر رقم 152 لسنة 2020، ليحل محلها بنظام أكثر مرونة، مستفيداً من دروس التطبيق العملي للقانون السابق ومعالجاً للثغرات التي ظهرت فيه.

 "لذلك أعتبر هذا القانون، تغييراً في العقيدة الضريبية المصرية"، فبدلاً من التركيز على تعظيم الحصيلة الآنية عبر التدقيق والفحص، يركز القانون على توسيع القاعدة الضريبية أفقياً من خلال بناء الثقة، ويجب الا يكون هذا القانون مؤقتاً، بل يعتمد كنظام ضريبي دائم ومستقر، مما يعطي رسالة طمأنة للمستثمرين بأن هذه التيسيرات هي "حق" وليست "منحة" مؤقتة.

 وهنا يبرز ما اسميته "الانتقال الآمن" الذي يتمثل في الحوافز النفسية والمالية لدمج الاقتصاد الموازي

لعل العقبة النفسية الأكبر أمام أي ممول يعمل في "الظل" هي الخوف من أثر رجعي لقراره بالتسجيل، فالسؤال المعتاد: "إذا ذهبت إليهم اليوم، هل سيحاسبونني عن السنوات العشر الماضية التي عملت فيها بدون ترخيص؟".

القانون 6 لعام 2025 يقدم إجابة حاسمة وتاريخية: لا.

تنص المواد المنظمة للقانون على مبدأ "عدم المحاسبة الضريبية عن الفترات السابقة لتاريخ التسجيل". بمجرد أن يتقدم الممول بطلب للتسجيل وتوفيق الأوضاع، يعتبر تاريخ التسجيل هو "تاريخ ميلاد ضريبي" جديد للمنشأة، وتسقط مصلحة الضرائب حقها في المطالبة بأي مستحقات عن سنوات العمل السابقة في الاقتصاد غير الرسمي، بشرط ألا يكون الممول مسجلاً بالفعل أو متهرباً صدرت ضده أحكام نهائية.

هذا "العفو الشامل" هو الحافز النفسي الأقوى، حيث يزيل سيف "التقادم الخمسي" المسلط على رقاب المخالفين، ويمنحهم فرصة لبداية جديدة وقانونية ويجب ان تكون الكوادر الضريبية المسؤولة عن التنفيذ والتطبيق على اعلى مستوى من الفهم والكفاءة لتطبيق وتنفيذ فلسفة وعقيدة القانون الجديد، حتى لا يفرغ من محتواه ومن الهدف الأصيل له.

بصفتي مصرفياً، أدرك أن المعضلة التاريخية في تمويل هذا القطاع من المشروعات الصغيرة تكمن دائما في "فجوة المعلومات"

فالبنوك لا تمول ما لا تراه. لكن الثورة التي نعيشها اليوم تتمثل في التحول الجذري من الاعتماد على "القوائم المالية التاريخية" إلى الاعتماد على "التمويل الرقمي المبتكر ".

اليوم، أصبحت التدفقات النقدية اللحظية عبر بوابات الدفع الإلكتروني، وسلوكيات التوريد والشراء الموثقة في "الفاتورة الإلكترونية"، هي الضمانة الحقيقية للجدارة الائتمانية. هذا التحول يسمح بضخ ما اسميه "السيولة الذكية" في شرايين الاقتصاد الحقيقي بدقة متناهية، مما يقلل مخاطر التعثر ويرفع كفاءة تخصيص الموارد.

ولعل البعد الأكثر استراتيجية من وجهة نظري، هو الربط بين هذا القانون وبين "استراتيجية التوطين الصناعي"، لم يعد الهدف هو دمج "تاجر التجزئة" فحسب، بل تحويل الورش الصغيرة إلى "وحدات إمداد وطنية" تغذي المصانع الكبرى بمدخلات الإنتاج، هذا التكامل الرأسي بين "الكيانات متناهية الصغر" و"القلاع الصناعية الكبرى" هو السبيل الوحيد لتقليل فاتورة الاستيراد الوسيطة.

 نحن نتحدث هنا عن تحويل الاقتصاد من نموذج "الجزر المنعزلة" إلى نموذج "الشبكة الإنتاجية المترابطة"، مما يعزز مناعة الاقتصاد المصري ضد صدمات سلاسل الإمداد العالمية.

أخيراً وليس آخراً، "القانون 6 لعام 2025" ليس عصا سحرية، ولكنه "حجر الزاوية التشريعي" لبناء اقتصاد مصري يتسم بالمنعة والسيادة الإنتاجية. إنها دعوة للمصرفيين وصناع القرار لالتقاط اللحظة التاريخية، والتعامل مع هذا القطاع لا بصفته "مشكلة" يجب حلها، بل بصفته "الحصان الأسود" الذي سيقود قاطرة النمو في العقد القادم.

إذا نجحت الدولة المصرية في التنفيذ الأمين لهذه النصوص، وحافظت على استقرار هذه السياسات، فإن مصر موعودة بدمج تريليونات الجنيهات في الدورة الاقتصادية الرسمية، هذا لا يعني فقط زيادة في حصيلة الضرائب، بل يعني نمواً في الائتمان، وزيادة في الصادرات، وتوظيفاً رسمياً للعمالة، وتحقيقاً للعدالة الاجتماعية، لذلك اعتبرها "ثورة صامتة" تعيد تشكيل وجه الاقتصاد المصري لسنوات قادمة.

تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا.

إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.

Short Url

search