اقتصاد الكسل، كيف بنت شركات التقنية إمبراطورياتها؟
الأربعاء، 17 ديسمبر 2025 09:14 ص
المساعدات الذكية
لم تعد هيمنة شركات التقنية الكبرى لغزًا تقنيًا بقدر ما أصبحت مسألة سلوك بشري، فخلف الخوارزميات المعقدة، والذكاء الاصطناعي، والاستثمارات بمليارات الدولارات، يكمن رهان اقتصادي بالغ البساطة: البشر يفضلون الراحة، ويكرهون التغيير، هذا الرهان، الذي قد يبدو بديهيًا، تحول إلى حجر الأساس في نماذج أعمال المنصات الرقمية العملاقة، ومن خلاله ضمنت بقاءها في القمة لعقد كامل رغم سرعة التغير في عالم التكنولوجيا.

من التفوق التقني إلى أسر المستخدم
في مراحل سابقة من تاريخ التقنية، كانت الهيمنة مرهونة بالأفضل تقنيًا: محرك أسرع، وجهاز أقوى، أو خدمة أرخص، لكن التجربة أثبتت أن التفوق التقني وحده لا يكفي للاستمرار.
كثير من الشركات المبتكرة انهارت لأنها لم تستطع الاحتفاظ بالمستخدمين، وهنا انتقلت شركات مثل جوجل وفيسبوك وأمازون من سباق الابتكار إلى سباق الاحتفاظ.
اقتصاديًا، يعرف هذا المفهوم بـ”تكاليف التحول”، أي الجهد النفسي والزمني والعملي الذي يتحمله المستهلك عند الانتقال من منصة إلى أخرى، وكلما ارتفعت هذه التكاليف، زادت قوة الشركة السوقية، ولم تكتفي المنصات الكبرى برفع هذه التكاليف، بل جعلت مغادرة أنظمتها البيئية فعلًا مرهقًا إلى حد يبدو غير عقلاني.
الأنظمة البيئية.. الراحة كمنتج
التحول الاستراتيجي الأهم كان بناء أنظمة بيئية شاملة، ولم تعد جوجل محرك بحث، بل بوابة للحياة الرقمية، بريد، وخرائط، وفيديو، وهواتف، وسحابة، ولم تعد أمازون متجر كتب أو حتى متجر تسوق، بل بنية تحتية للاستهلاك، من شراء، ومشاهدة، وتخزين، وتوصيل، وحتى رعاية صحية.
اقتصاد الراحة هنا لا يبيع منتجاً واحداً، بل يبيع أسلوب حياة، وكل خدمة إضافية تقلل حاجة المستخدم للبحث عن بديل، وكل تكامل جديد يزيد شعوره بأن الخروج من هذه الأزمة الرقمية مخاطرة غير ضرورية، والنتيجة هي ولاء لا ينبع من الإعجاب، بل من الكسل.
نموذج الكازينو.. المنصة تربح دائماً
تشبه المنصات الكبرى الكازينو الاقتصادي، لا يهم كيف يستخدمها الفرد، من مشاهدة، وتسوق، وتفاعل، أو حتى تذمر، ففي جميع الحالات، تجمع المنصة البيانات، والانتباه، والعمولات، والمستخدمون هم حركة المرور، والمعلنون والبائعون هم من يدفعون الثمن، هذا النموذج يفسر لماذا لا تهتم هذه الشركات كثيرًا بسلوك المستخدم الأخلاقي أو المنتج، بقدر اهتمامها بإبقائه داخل المنصة أطول فترة ممكنة، ومن هنا، فإن الوقت هو العملة الجديدة، والكسل هو الوقود الذي يجعل تدفق هذه العملة مستقرًا.

الذكاء الاصطناعي.. تهديد أم أداة تحصين؟
قد يبدو الاستثمار الهائل في الذكاء الاصطناعي محاولة لمواكبة المستقبل، لكنه في جوهره استراتيجية دفاعية، فالذكاء الاصطناعي، لو أطلق دون قيود، يمكن أن يقلل اعتماد المستخدم على المنصات التقليدية.
لماذا نبحث في جوجل إذا كان بإمكان مساعد ذكي أن يجيب مباشرة؟ ولماذا نتسوق في أمازون إذا كان نظام آخر يقارن ويقترح تلقائيًا؟، لكن المنصات الكبرى استوعبت الخطر مبكراً، فقررت استخدام الذكاء الاصطناعي لتعميق الاعتماد بدلاً من تقويضه، المساعدات الذكية، والاقتراحات التلقائية، والأتمتة الكاملة للمهام اليومية كلها تصب في هدف واحد، جعل الحياة بدون المنصة أكثر صعوبة مما ينبغي.
من الاعتماد الوظيفي إلى الاعتماد العاطفي
الجديد اقتصادياً هو الانتقال من الاعتماد الوظيفي إلى الاعتماد العاطفي، لم يعد الذكاء الاصطناعي مجرد أداة تنجز المهام، بل شريكاً افتراضيًا يقدم الدعم، والمرافقة، وحتى الإحساس بالاهتمام، هذا النوع من الارتباط يخلق ولاءً من نوع مختلف، أقل عقلانية وأكثر مقاومة للتغيير.
شركات مثل “Replika” و“character.ai” تمثل مختبرات مبكرة لهذا النموذج، لكن المنصات الكبرى تراقب وتتعلم، فعندما يصبح المنتج مصدراً للراحة النفسية، لا يعود السعر أو الجودة العامل الحاسم، بل الشعور بعدم القدرة على الاستغناء.

الكلفة الخفية لاقتصاد الراحة
من منظور اقتصادي كلي، يطرح هذا النموذج سؤالاً مقلقاً: ماذا يحدث لإنتاجية الإنسان وقدرته على الاستقلال عندما تبنى الأسواق على تكريس الكسل؟، كل موجة جديدة من الراحة تقلل مهاراتنا، وتزيد اعتمادنا، وتجعلنا أقل قدرة على العمل خارج هذه الأنظمة.
قد يبدو المستقبل مريحاً، وربما خالياً من التنغيص، لكنه أيضًا مستقبل تكون فيه القوة الاقتصادية مركزة في أيدي قلة من المنصات، بينما يتحول المستخدمون إلى مستهلكين سلبيين داخل اقتصاد مصمم لإبقائهم جالسين إلى الأبد.
هل الكسل خيار فردي أم نتيجة هندسة اقتصادية؟
قد يبدو تحميل المستهلك مسؤولية هذا الكسل نوعاً من التبسيط المخل، فالواقع أن ما نعيشه اليوم هو نتيجة هندسة اقتصادية وسلوكية متعمدة، استثمرت فيها شركات التقنية مليارات الدولارات من أبحاث علم النفس السلوكي وتصميم الواجهات، لم يترك المستخدم ليختار الراحة بمحض إرادته، بل جرى توجيهه إليها خطوة بخطوة، عبر إزالة أي احتكاك قد يدفعه للتفكير أو المقارنة أو التردد.
من هذا المنظور، لا يعود الكسل ضعفاً فردياً بقدر ما يصبح نتاجاً منطقياً لسوق مصمم بعناية، وعندما تكون كل البدائل أكثر تعقيداً، وأبطأ، وأقل تكاملاً، يصبح البقاء داخل المنصة الخيار العقلاني، حتى لو كان ضاراً على المدى الطويل.

التنظيم الغائب وسؤال المستقبل
هنا يبرز الدور الغائب للتنظيم، فبينما تفرض قواعد صارمة على قطاعات تقليدية بحجة حماية المستهلك والمنافسة، تمنح المنصات الرقمية حرية شبه مطلقة لإعادة تشكيل العادات والسلوكيات، النتيجة سوق يتمتع فيه القوي بحرية الابتكار، بينما يترك المستخدم ليتكيف وحده مع آثاره الجانبية.
السؤال الاقتصادي الأهم لم يعد: هل هذه المنصات مفيدة؟ بل، ما الثمن الذي ندفعه مقابل هذه الراحة؟ وإذا استمر الرهان على الكسل رابحًا بلا قيود، فقد نجد أنفسنا في اقتصاد بالغ الكفاءة تقنياً، لكنه فقير إنسانياً، قليل التنوع، ومحصن ضد أي تغيير حقيقي.
اقرأ أيضًا:
الذكاء الاصطناعي يغزو المطبخ، تحول اقتصادي يعيد تعريف دور أخصائي التغذية في 2026
الفكاهة المصطنعة.. اقتصاد الكوميديا في عصر خوارزميات الـ Ai
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا.
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
كيف تقود المدن الصغرى نمو قطاع السلع الاستهلاكية في الصين رغم تراجع ثقة المستهلكين؟
17 ديسمبر 2025 11:00 ص
الذكاء الاصطناعي يغزو المطبخ، تحول اقتصادي يعيد تعريف دور أخصائي التغذية في 2026
16 ديسمبر 2025 12:00 م
الفكاهة المصطنعة.. اقتصاد الكوميديا في عصر خوارزميات الـ Ai
16 ديسمبر 2025 09:21 ص
أكثر الكلمات انتشاراً