دروس التاريخ، لماذا ينقلب السوق دائمًا على الضعفاء والمهمشين؟
الأربعاء، 22 أكتوبر 2025 11:53 م

جرينوود
تتغير الأزياء، وتتطور الأدوات، وتتبدل الأماكن، لكن الصراع الأساسي يبقى واحدًا، من يملك القوة يكتب القواعد، وعلى مر العصور، كان الضعفاء والمهمشون سواء كانوا فقراء، أو أقليات، أو مستثمرين صغار هم أكثر من يدفع الثمن، ليس بسبب فشلهم فقط، بل في كثير من الأحيان بسبب نجاحهم.
ففي زمن العبودية والتمييز العنصري، كانت جرينوود رمزًا لنهوض السود اقتصاديًا، وفي زمن الأسواق الحرة والوعود الرقمية، كان المستثمر الصغير هو من يهرع خلف الفرص، ليجد نفسه دائمًا في الخطوط الخلفية عند الهزات.
فما الذي يجعل الأسواق، برغم حيادها الظاهري، ساحة يتحطم فيها الأكثر هشاشة؟ وكيف يعيد التاريخ إنتاج نفس المآسي بأدوات أكثر حداثة؟ وهل يمكن فعلاً للمستضعفين أن يفوزوا بلعبة صممها الأقوياء؟

الفصل الأول: جرينوود.. الجريمة كانت النجاح
في عشرينيات القرن الماضي، كانت جرينوود، الواقعة في تولسا أوكلاهوما، استثناءً نادرًا في أمريكا المقسمة عرقيًا، كانت منطقة مزدهرة بأحياء نظيفة، وشركات مملوكة للسود، ومؤسسات مالية وتعليمية مستقلة، ما يعرف اليوم بـ"وول ستريت السوداء" لم يكن مجرد حي، بل رمز لمجتمع قرر ألا ينتظر العدالة، بل يبنيها بنفسه.. لكن هذا النجاح كان مكلفًا.
كل ما احتاجه المتربصون هو إشاعة عن اعتداء، لتشتعل نيران الحقد، وخلال ساعات، أُحرقت البيوت، ونُهبت المتاجر، وقُتل العشرات وربما المئات، والأسوأ.. صمت الدولة، لا حماية قانونية، ولا تعويض، ولا اعتراف حتى.
دُمرت جرينوود، ليس لأنها فشلت، بل لأنها نجحت دون إذن، نجحت دون تحالفات قوية، ودون دعم سياسي، ودون حماية من مؤسسات الدولة، وهذا النمط يتكرر كثيرًا.
الفصل الثاني: فقاعة المسيسيبي.. حين تكون الدولة طرفًا في اللعبة
قبل ثلاثمائة عام، في فرنسا، بدأ سيناريو مألوف، كانت البلاد غارقة في ديون الحرب، فتم تسليم المفاتيح لرجل واحد: جون لو، الاسكتلندي الذكي والمقامر السابق، الذي قرر أن يكتب وصفة جديدة للنهضة.
أنشأ البنك الملكي، وطبع عملات ورقية غير مدعومة، واستحوذ على شركة المسيسيبي التي احتكرت التجارة والاستثمار.
في البداية، بدت الخطة معقولة، ثم مغرية، ثم هوسًا وطنيًا، وارتفعت الأسهم، وتدفقت الاستثمارات من كل حدب وصوب، وصدق الجميع أن مناجم الذهب في وادي المسيسيبي ستجعل فرنسا أغنى أمة على الأرض.
لكن الحقيقة كانت أبسط من ذلك، نظام مالي قائم على الثقة فقط، بلا أساس حقيقي ومثل كل فقاعة، جاء الانفجار، وعندما تهاوت الأسعار، لم تنهر فقط الأسواق، بل الثقة بالنظام ككل.
وفر "لو"، مفلسًا، مطرودًا، تاركًا ورائه اقتصادًا محطمًا ومواطنين معدمين.
ما حدث كان تكرارًا لنفس المعادلة: حلم مزيف يُسوّق للفقراء، وتحالفات خفية بين الحكومة والمال، وتضليل ممنهج، وحين ينهار كل شيء، يهرب الكبار، ويُترك الصغار في مواجهة الحطام.
الفصل الثالث: ذعر 1825.. عندما تتكلم السلطة بلغة المال
بعد الحروب النابليونية، كانت بريطانيا تبحث عن أسواق جديدة، وكانت أمريكا اللاتينية، حديثة الاستقلال، تبدو كأرض الفرص، سندات، وشركات تعدين، ومشاريع بنية تحتية ضخمة، كلها تسوق كاستثمارات مضمونة، لكن خلف هذا الازدهار المفترض، كان هناك فساد، ونفوذ سياسي، واستغلال جشع.
أكثر من 600 شركة تأسست خلال عامين فقط، كثير منها كانت مجرد أوراق، حتى البرلمان البريطاني نفسه كان متورطًا، عبر أعضاء كانوا يروجون لشركات وهمية يملكون حصصًا فيها.
وبمجرد أن انكشف الكذب، انهار السوق، وخسر آلاف المواطنين مدخراتهم، وانهارت عشرات البنوك، وكانت الكارثة درسًا مبكرًا في أن من يتحكم بالسردية الإعلامية والشرعية السياسية يمكنه خداع الملايين، بسهولة مرعبة.
الفصل الرابع: من إنرون إلى بيتكوين.. السوق لا ينسى طريقه إلى الضعفاء
في العصر الحديث، لا تقل السيناريوهات مأساوية، سواء في انهيار شركة "إنرون"، التي تلاعبت بحساباتها لسنوات، أو في كارثة الرهن العقاري في 2008، أو حتى في موجات صعود وهبوط بيتكوين أو أسهم الميم مثل GameStop وAMC.
في كل مرة، يتكرر النمط نفسه: وعد بفرصة فريدة، ودعاية هائلة، مدعومة من مؤثرين أو إعلام أو حتى خبراء، يصحب ذلك دخول جماعي من فئات لم تكن تعرف الأسواق أصلًا، ثم انهيار، يٌنهب الأرباح من الصغار ويترك الكبار أحياءً.
وقد تتغير الأسماء لكن اللعبة لا تتغير.
الفصل الخامس: السوق لا يكرهك.. لكنه لا يهتم بك أيضًا
السوق ليس ظالمًا بطبيعته، لكنه مجرد كيان بلا ضمير، تحركه الحوافز، وتقوده الإشارات، وتتحكم فيه اليد الخفية كما قال “آدم سميث”، لكنه لا يملك إحساسًا بالعدالة.
العدالة تحتاج إلى مؤسسات، والمؤسسات، في غياب رقابة حقيقية وشبكات حماية، تخضع لمن يملك الصوت الأعلى، أو النفوذ الأقوى، والسؤال الذي يواجه كل مستثمر صغير، وكل مجتمع مهمش، هو: هل تفهم قواعد اللعبة؟ أم أنك مجرد رقم في مخطط أحدهم؟

النجاح بدون حماية.. فخ قاتل
من جرينوود إلى وادي المسيسيبي، ومن سندات أمريكا اللاتينية إلى الميم ستوكس، القاسم المشترك كان دائمًا واحدًا: النجاح العلني لمن لا يملك حماية مؤسسية يغري المفترسين.
فالمستثمر الصغير الذي يظن أنه فهم السر، والمجتمع الهامشي الذي يحاول بناء ازدهاره بهدوء، سيجدان أنفسهما على رادار من يملكون الأدوات، والقوانين، والقدرة على قلب الطاولة.
والتاريخ لا يعيد نفسه لأن الناس لا تتغير، بل لأن الهياكل لا تتغير.
الوعي.. السلاح الوحيد المتبقي
لا أحد يملك القوة الفردية لإيقاف انهيار مالي، أو مذبحة عنصرية، أو فقاعة اقتصادية، لكن كل فرد يملك الوعي:
وعي بالمخاطر.
وعي بالدروس المتكررة.
وعي بعدم الركض وراء الحشود دون فحص.
وعي بأن الحماية لا تأتي من الحظ، بل من بناء شبكة أمان، من معلومات، وتحالفات، ومؤسسات، ومساءلة.
فكما قال المستثمر الشهير هوارد ماركس: "النجاة في السوق ليست للأذكى، بل للأكثر وعيًا بالمخاطر."

هل هناك أمل؟
نعم، لكن ليس أملاً رومانسيًا بأن القانون سيحمي الجميع، أو أن الذكاء وحده كافي، بل أمل في أن نقرأ التاريخ جيدًا، وأن نعرف أن السوق لا يرحم، لكنه يكافئ أحيانًا من يفهم، أن نفهم أن الحلم حق، لكن الحذر ضرورة.
فمن لا يملك درعًا، لا يكفيه الحلم، ومن لا يتعلم من جرينوود، سيجد نفسه يعيد نفس القصة.. ولكن من شاشة تداول، لا من نافذة منزل يحترق.
اقرأ أيضًا:
نبوءة «كينز» تعود للحياة، هل يمنحنا الذكاء الاصطناعي وقتًا أكثر وعملاً أقل؟
جريمة في وضح النهار.. صانع السوق يتلاعب بالاقتصاد ويخدع المستثمرين
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
بين الحلم والحقيقة، لماذا لم تتحقق السيارات النووية حتى الآن؟
21 أكتوبر 2025 03:00 م
تداعيات الإغلاق الأمريكي على سوق الإسكان، قروض متوقفة ومخاطر تمتد إلى البنوك
20 أكتوبر 2025 03:53 م
لماذا أصبح الذكاء الاصطناعي شرطًا للبقاء في سوق صناعة المنتجات الاستهلاكية؟
20 أكتوبر 2025 03:00 م
أكثر الكلمات انتشاراً