الأحد، 12 أكتوبر 2025

07:05 ص

دكتور تامر مؤمن يكتب: مصر وسياسة التوازنات.. لغة السيادة المالية في نظام نقدي متعدد الأقطاب

السبت، 11 أكتوبر 2025 03:23 م

الدكتور تامر مؤمن

الدكتور تامر مؤمن

رغم أن التحول إلى نظام نقدي عالمي متعدد الأقطاب لن يتحقق بين ليلة وضحاها، إلا أنه بات حقيقة تدريجية تتشكل من خلال تفاعل القوى الاقتصادية الكبرى والتحولات الجيوسياسية العميقة. هذا الواقع الجديد يتطلب من الدول، وخاصة الاقتصادات الناشئة مثل مصر، استراتيجيات تكيفية واعية، قائمة على التنويع والانفتاح والحفاظ على الاستقلال النقدي.
الإبحار في عواصف التعددية: استراتيجية التمركز المصري في النظام النقدي العالمي الجديد
لقد تناولنا في مقالاتي السابقة، "ما بعد هيمنة الدولار: الصين تقود التحول نحو نظام نقدي عالمي جديد... ومصر في قلب المعادلة"، التحول الهيكلي العميق الذي يشهده النظام المالي الدولي. إن رؤية بكين لنموذج متعدد الأقطاب، حيث "تتعايش وتتنافس وتتوازن" العملات السيادية، لم تعد مجرد تنظير، بل أصبحت برنامج عمل مدفوعاً بتطورات تقنية وجيوسياسية متسارعة.
إن البيئة العالمية اليوم تفرض تحديات مضاعفة على الاقتصاديات الناشئة، وتضع الدولة المصرية أمام مفترق طرق حاسم: فمن جهة، هناك تسارع في خطط فك الارتباط بالدولار، ومن جهة أخرى، هناك ضغوط ناجمة عن دورة السياسة النقدية العالمية، وتهديدات الحمائية التجارية التي قد تعيد رسم خرائط التجارة والتمويل. لذا، تتطلب هذه اللحظة من مصر ليس فقط الصمود، بل إعادة التموضع الاستراتيجي لتعزيز النمو المستدام ضمن رؤية مصر 2030.
أولاً: "تنويع سلة التسويات" آليات التوازن المالي في مواجهة الهيمنة الأحادية
شهدت الأشهر الأخيرة نقلة نوعية في جهود التكتلات الساعية لإزاحة الدولار، حيث تجاوزت المناقشات النوايا السياسية إلى تبني آليات مالية ملموسة. 
•    البلوكتشين ومنصات الدفع البديلة
حيث لم يعد الحديث يقتصر على اتفاقيات مبادلة العملات الثنائية (والتي يعد البنك المركزي المصري رائداً فيها)، بل تطور ليشمل البنية التحتية للمدفوعات. فقد ركزت قمة البريكس الأخيرة على دفع العمل بآلية "BRICS Pay" (بريكس باي) القائمة على تقنية البلوكتشين، واستخدام العملات الرقمية للبنوك المركزية (CBDCs)، كاليوان الرقمي، في التسويات التجارية العابرة للحدود، هذا التوجه يمثل محاولة مباشرة لخلق نظام مالي موازٍ يتجاوز هيمنة نظام SWIFT التقليدي، ويقلل من مخاطر "تسليح الدولار" التي أضحت ورقة ضغط جيوسياسية في الصراعات الدولية. إن تبني هذه التقنيات يعني أن التجارة العالمية المستقبلية ستكون أقل اعتماداً على الوسيط الغربي وأكثر مرونة. 
إن مصر، بفضل جهود البنك المركزي المصري في تنويع العملات المستخدمة بالتمويل، تمتلك أساساً للانتقال إلى هذا النظام الجديد، ويتطلب هذا المسار استراتيجية أوسع للتنويع الجغرافي للعملات، لا تقتصر على اليوان، بل تشمل تعزيز دور اليورو في التجارة مع أوروبا، والعملات الخليجية في المعاملات الإقليمية والاستثمار، والعملات الإفريقية ضمن تكتلات القارة، مما يمنح الاقتصاد المصري شبكة أمان نقدية أوسع وأكثر استدامة.
•     معركة حوكمة المؤسسات المالية الدولية
إلى جانب خلق البدائل، تعمل دول البريكس على إصلاح الهيكل القائم. وقد برزت دعوات صريحة من وزراء مالية المجموعة لإصلاح صندوق النقد الدولي (IMF)، بما في ذلك إعادة توزيع حقوق التصويت وإنهاء التقليد التاريخي للإدارة الأوروبية للصندوق.
تضع هذه التطورات مصر كلاعب أساسي في جبهة المطالبة بحوكمة أكثر عدالة، فاستخدام مصر لتمويلات من بنك التنمية الجديد (NDB) والبنك الآسيوي للاستثمار في البنية التحتية (AIIB)، إلى جانب المؤسسات التقليدية، هو جزء من استراتيجية متكاملة تهدف إلى تنويع مصادر التمويل وشروطه، وتقليل النفوذ الأحادي على القرارات الاقتصادية المصرية.
ثانياً: التحدي المزدوج للسياسة النقدية والحمائية التجارية العالمية
تتأثر مصر بقرارين عالميين متناقضين وهما دورة التيسير النقدي العالمية وتهديد الحمائية التجارية والرسوم الجمركية. فبعد موجة تشديد نقدي هي الأقسى منذ عقود، أدت إلى رفع أسعار الفائدة الأمريكية والأوروبية لـ 11 مرة متتالية، بدأت البنوك المركزية الكبرى، وعلى رأسها الاحتياطي الفيدرالي (Fed)، مرحلة التيسير النقدي تدريجياً. ويمثل هذا التحول فرصة حيوية. فخفض الفائدة عالمياً يؤدي إلى تراجع تكلفة خدمة الدين الخارجي لمصر، ويزيد من جاذبية الاستثمار في الأصول المصرية، ويُقلل من ضغوط الودائع الساخنة التي تتطلب أسعار فائدة مرتفعة.
في المقابل، يوجد في الأفق موجة جديدة من الحمائية التجارية، لا سيما مع التهديدات بفرض رسوم جمركية عقابية على الدول التي تسعى لإزالة الدولرة والانخراط في نظام البريكس. هذه التوترات الجيوسياسية تستهدف مباشرة سلاسل الإمداد العالمية والتجارة الحرة، مما يشكل خطراً على صادرات مصر (التي تعتمد على سهولة الوصول للأسواق) وعلى إيرادات قناة السويس (التي تعتمد على استقرار حركة الملاحة العالمية) وبالرغم من هذه التحديات لا يزال يوجد فرصة للقطاع الصناعي والإنتاج المصري لاستفادة من هذه التحديات وتحويلها الى فرص استثمارية.
فيجب على الدولة المصرية أن تستغل، بل وتستبق هذا التهديد عبر إعادة هيكلة صادراتها وتعميق اتفاقيات التجارة الحرة مع تكتلات إقليمية، لضمان استمرارية الوصول للأسواق في ظل تجزئة سلاسل القيمة العالمية، والحفاظ على تدفق إيرادات قناة السويس من خلال ضمان حيادها وأمنها.
ثالثاً: المقترحات الاستراتيجية المصرية: خارطة طريق في نظام نقدي متعدد الأقطاب 
إن النجاح في هذا المشهد المتغير يتطلب من الدولة المصرية تبني استراتيجية مرنة، تدمج بين العمل على المستوى الماكرو اقتصادي والهيكلي، والاستفادة القصوى من شبكة التحالفات الدولية، هذه الاستراتيجيات تتجاوز التركيز على تكتل واحد، لتتبنى نهجاً شاملاً يعزز المرونة والقدرة التنافسية للاقتصاد المصري في مشهد عالمي يتسم بالتنافسية والتجزئة الجيوسياسية.
وهنا اضع بعض المقترحات الاستراتيجية للدولة المصرية، ومن الممكن أن تساعد في رسم خارطة طريق للدولة المصرية لتفادي "فخ الدولرة" واستغلال "آليات البريكس" في نظام نقدي متعدد الأقطاب، فهي مقترحات لبناء إستراتيجية التكيف الديناميكي الذي يجب ان تتبناها الدولة المصرية حيث يساعد في تموضعها اقتصادياً لمواجهة تحديات "الحمائية" وتوترات النظام النقدي العالمي، فسياسات الدولة المصرية دائما ما ترتكز الى التوازن وترتقي في بعض الأحيان الى الاستباقية.
تعتمد هذه المقترحات على أربع محاور ومجالات استراتيجية أساسية لكلا منها الرؤية والهدف الخاص به وكذلك الإجراءات التنفيذية المقترحة والمطلوبة.
•     المحور الأول: السيادة النقدية والمالية وإدارة الاحتياطيات
الهدف من هذا المحور هو توفير مسارات دفع مُحصنة ضد العقوبات، وضمان استمرارية التجارة الحيوية بعيداً عن تقلبات الدولار، بناء شبكة أمان نقدية تقلل من أخطار الدولرة وتكلفة التحويلات، وتدعم استقرار الجنيه المصري عبر زيادة الطلب على سلة عملات متنوعة.  وهنا اقترح ان يكون ذلك من خلال تسريع التكامل الرقمي وتنوع سلة العملات من خلال تطوير آليات متقدمة للتسوية بالعملات المحلية مع كافة الشركاء التجاريين الرئيسيين (في آسيا وأوروبا والخليج وأفريقيا)، بالتوازي مع تعزيز حيازات الذهب كأصل احتياطي عالمي، واستكشاف إمكانية التعاون في تطوير منصات مدفوعات إقليمية عابرة للقارات (مثل ربط أنظمة الدفع الإفريقية بآليات البريكس). 
المحور الثاني: تعزيز المرونة الهيكلية والإنتاجية
ويهدف هذا المحور الى تعزيز القدرة التنافسية للاقتصاد عبر زيادة القيمة المضافة المحلية، وتحويل مصر من مستهلك للعملات الصعبة إلى مُصدر صافٍ ومستدام. ويمكن تحقيق هذا التمكين الصناعي والإحلال الكيفي من خلال تطبيق حزمة إصلاحات تركز على توطين الصناعات الاستراتيجية ذات المكون المستورد العالي، مثل قطاعات الطاقة النظيفة، والمعدات، والصناعات الغذائية المعالجة، لتقليل فاتورة الاستيراد المزمنة، وربط ذلك بتوفير حوافز ضريبية ومالية لتمكين القطاع الخاص ليقود هذا التحول الإنتاجي.
•    المحور الثالث: التحوط الجيوسياسي وتدفق التجارة
ويرتكز هذ المحور على الحفاظ على مكانة مصر كـ "ممر آمن" للتجارة العالمية في ظل التوترات الجيوسياسية، وجذب الاستثمارات الباحثة عن استقرار سلاسل الإمداد ويتحقق ذلك في العمل على تحويل مصر إلى منصة لوجستية محايدة والاستفادة من الموقع الاستراتيجي وقناة السويس عبر ضمان الحياد اللوجستي وتقديم حوافز لتسهيل التجارة وتخفيف الرسوم للمتعاملين عبر مسارات بديلة غير دولارية، مع تطوير مناطق اقتصادية خاصة تستهدف جذب الاستثمارات المنسحبة من سلاسل القيمة العالمية المتجزئة.    
•    المحور الرابع: تنويع مصادر التمويل التنموي
ويعتمد هذا المحور على رؤية توفير تمويل مستدام وميسر لمشاريع رؤية 2030، وضمان تمثيل مصالح مصر والدول النامية في صنع القرار المالي العالمي. وذلك من خلال الاستفادة القصوى من المؤسسات متعددة الأطراف تعزيز الشراكة مع كافة البنوك التنموية الإقليمية والدولية (مثل NDB، AIIB، AfDB، المصارف التنموية الخليجية، وIBRD)، ليس فقط للتمويل، بل لنقل التكنولوجيا والحوكمة والعمل بنشاط ضمن تكتلات الجنوب العالمي لـ إصلاح حوكمة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لتعكس الثقل الاقتصادي الحالي للدول النامية.
إن الموقف المصري الحالي هو موقف قوة كامنة تتطلب اليقظة والعمل الاستراتيجي. إن الانتقال إلى عالم متعدد الأقطاب حقيقة لا مفر منها، لكنه محفوف بالمخاطر والتناقضات. إن نجاح استراتيجية مصر يكمن في الحفاظ على سياسة التوازنات الإقليمية والدولية، مع تنفيذ إصلاحات هيكلية جريئة تخفف من هشاشة الاقتصاد أمام الصدمات الخارجية، سواء كانت نقدية أو تجارية أو جيوسياسية.
إن المقترحات المذكورة تمثل خريطة طريق لتمكين الدولة المصرية من مواصلة رحلة النمو والتنمية المستدامة، ليس فقط كشريك متكيف، بل كلاعب فاعل ومؤثر في تشكيل معالم النظام الاقتصادي العالمي الجديد.

Short Url

search