محمد حبيب يكتب.. التحليل النفسي لفشل بعض المشاريع الصناعية المعتمدة على AI
السبت، 16 أغسطس 2025 12:48 م

محمد حبيب
بين الطموح والخيبة يتشكل المشهد النفسي لأي تجربة بشرية كبرى، ومشاريع الذكاء الاصطناعي ليست استثناءً من هذه القاعدة فحين اندفع العالم الصناعي للاستثمار في الذكاء الاصطناعي كان الدافع الأساسي هو الإحساس بامتلاك عصا سحرية قادرة على قلب الموازين، فتحول الحلم إلى سباق محموم غير أن الأحلام حين تتحول إلى أرقام وأسواق تظل تحمل في أعماقها طبيعة إنسانية هشة، سرعان ما تصطدم بالواقع حين لا تلبّي النتائج الضخمة ذلك الحماس الجماعي هنا يبدأ الجانب النفسي في رسم ملامح المشهد أكثر مما تفعل الحسابات المالية.
ويولّد تضخم التوقعات حالة نفسية أشبه بالتنويم الجماعي، حيث ينغمس المستثمرون والمهندسون وصنّاع القرار في صورة مستقبل وردي وهذا الانبهار يصنع قوة دفع هائلة لكنه في الوقت نفسه يزرع بذور خيبة لاحقة فالتوقعات غير الواقعية تعمل على رفع سقف الأمل إلى مستويات لا يمكن بلوغها، وحين ينكشف الواقع يتولد شعور بالخذلان يشبه انهيار وهم طويل الأمد وفي علم النفس، مثل هذه الصدمات غالبًا ما تكون أقسى من الفشل نفسه، لأنها تهز ثقة الإنسان بقدراته وتصوراته.
وأيضًا حين لا تتطابق النتائج مع الوعود، تتشكل فجوة نفسية عميقة. هذه الفجوة ليست مجرد عجز عن تحقيق الأرباح بل هي صدمة جماعية تصيب الأطراف كافة المستثمرون الذين راهنوا، الإدارات التي وعدت، والعاملون الذين بذلوا الجهد. هذه الفجوة تحوّل الأمل إلى إحباط، وتجعل الأفراد أكثر عرضة لمشاعر القلق والانسحاب وربما الشك في قيمة الجهود المبذولة إنها لحظة يتجاوز أثرها حدود الشركة لتصبح جزءًا من الخطاب العام حول جدوى الذكاء الاصطناعي ذاته.
ولذلك القلق المؤسسي في مثل هذه اللحظات يتضخم، فالخوف من خسارة السمعة أو ضياع السبق في المنافسة يجعل القرارات أكثر استعجالًا وأقل عقلانية وكذلك الضغط الزمني يضغط على أعصاب الجميع، فيصبح المطلوب هو تحقيق إنجاز بأي ثمن، ولو كان على حساب الجودة أو على حساب اتزان العاملين هنا يظهر الجانب النفسي في صورته الصارخة:قرارات متسرعة، خطط غير ناضجة، وبيئة مشحونة بالارتباك.
ومن أبرز الظواهر النفسية في هذه المرحلة ما يعرف بالتنافر المعرفي، إذ يميل القائمون على المشاريع الخاسرة إلى الاستمرار رغم وضوح الفشل فيرفض العقل الاعتراف بخطأ استثماري كبير، ويفضل أن يخلق مبررات دفاعية مثل "السوق غير مستعد بعد" أو "التقنية ستنجح قريبًا"هذه الاستراتيجيات الدفاعية قد تحمي الأنا مؤقتًا، لكنها تزيد الخسائر وتجعل الفشل أكثر إيلامًا عند نهايته.
أما على مستوى الأفراد، فإن الإرهاق النفسي يصبح سمة أساسية فرق التطوير تعمل تحت ضغوط هائلة، تُطالب بإنجاز ما لا يمكن إنجازه، وتُراقَب من إدارات وممولين ينتظرون المعجزات فالنتيجة الطبيعية هي الإنهاك، فقدان الحافز، وتراجع الإبداع. وهذا الإرهاق النفسي لا يظهر في الأرقام، لكنه عامل جوهري في انهيار العديد من المشاريع الصناعية المعتمدة على الذكاء الاصطناعي.
وأيضًا غياب الرؤية النفسية في إدارة المخاطر الاستثمارية يجعل الوضع أكثر هشاشة فغالبًا ما يُنظر إلى الاستثمارات بوصفها أموالًا وأرقامًا فقط، متجاهلين أن وراء كل مشروع عقولًا بشرية لها حدود وقدرات وطاقات وحين تغيب هذه الرؤية، تتحول المخاطرة إلى قفزة في الظلام، وتزداد احتمالات الخيبة. فالمؤسسات التي تدرك أن الاستثمار يحتاج إلى توازن بين الطموح والقدرات النفسية للعاملين تقلل من احتمالات الفشل وتبني نماذج أكثر واقعية.
والأخطر مما سبق كله هو أن الفشل حين يقع لا يظل حبيس الأرقام، بل ينتشر كعدوى نفسية داخل المؤسسة فيصبح الجو العام مشبعًا بالإحباط، وتضعف الروح الجماعية، ويتحول الإبداع إلى نوع من السلبية والتبرير حيث إن الموظفين الذين كانوا يوماً ما متحمسين ينكمشون، ويخف حماسهم، بل قد يلجأ بعضهم إلى البحث عن فرص أخرى، في حين يبقى من تبقى في حالة من التكيف السلبي الاستمرار دون شغف، أو المشاركة فقط كأداء للواجب.
وفي هذه البيئة يبدأ البحث عن تبريرات شكلية للفشل، بدلاً من الاعتراف الشجاع بالأخطاء هذه التبريرات تعطي المؤسسة وهمًا بأنها تسيطر على الوضع، لكنها في الحقيقة تغلق الباب أمام التعلم ومن منظور نفسي، هذه الآلية الدفاعية قد تحمي مؤقتًا من الصدمة لكنها تمنع النمو وتزيد من احتمال تكرار نفس الأخطاء في المستقبل.
ومع ذلك فإن الفشل لا يجب أن يُفهم كنهاية، بل كفرصة للنمو وفي علم النفس التنظيمي يعتبر الفشل تجربة تعلم جماعية، إذا تمت معالجته بوعي، إنه فرصة لإعادة النظر في التوقعات، لإعادة تقييم الإمكانات، ولتأسيس ثقافة لا تعيب الفشل بل تعتبره محطة من محطات النضج ولذا فالمؤسسات التي تدرك هذه الحقيقة تستطيع أن تحول الخسارة إلى خبرة نفسية عميقة تقيها من تكرارها مستقبلاً.
الاستثمار في الذكاء الاصطناعي
وأيضًا ومن باب التفاؤل، علينا النظر إلى الفشل لا كعلامة انهيار بل كدعوة لإعادة التوازن بين الحلم والواقع. فالمشاريع التي تتعثر تحمل في داخلها بذورًا لحلول جديدة إذا ما أُعيدت قراءتها بوعي نفسي. والأمل الحقيقي يكمن في أن تدرك المؤسسات أن الاستثمار في الذكاء الاصطناعي لا يحتاج فقط إلى أموال وتقنيات، بل إلى إدارة وجدانية تُحسن الاستماع لمخاوف العاملين، وتسمح لهم بالتعبير عن الضغوط، وتبني ثقافة تحتفي بالتجريب حتى لو أدى أحيانًا إلى إخفاق. حينها يتحول الفشل إلى مختبر خبرة، والطموح إلى مشروع ناضج، والخسارة إلى خطوة تمهّد لانطلاقة أكثر ثباتًا وأعمق تأثيرًا.
وعلى هذا يمكن القول إن الأثر النفسي للفشل في مشاريع الذكاء الاصطناعي إذن يتجاوز الخسارة المادية. إنه يفتح أسئلة أعمق: كيف ندير أحلامنا الجماعية؟ كيف نوازن بين الطموح والقدرة؟ كيف نبني استثمارات تراعي البُعد الإنساني للعاملين والمستثمرين؟ الإجابة تكمن في إدراك أن الصناعة والمال لا ينفصلان عن العاطفة والإدراك النفسي، وأن أي مشروع تقني ناجح هو بالضرورة مشروع إنساني في جوهره.
وفي النهاية، ما يحدد مصير الذكاء الاصطناعي في الصناعة ليس حجم الاستثمارات وحدها، بل قدرة الإنسان على أن يتعامل مع طموحاته واحباطاته بوعي نفسي متوازن. فإذا تمكنا من تحويل الطموح الجامح إلى خطط مدروسة، والخيبة إلى تجربة تعلم، فإننا لا نضمن فقط مشاريع أكثر نجاحًا، بل نصنع بيئة أكثر إنسانية قادرة على التكيف مع التغيير وصناعة المستقبل بثقة وهدوء.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ“أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية”، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
دكتور تامر مؤمن يكتب.. نهضة صناعة الأدوية في مصر بين الإصلاح الاقتصادي ورؤية 2030
16 أغسطس 2025 02:52 م
دكتور أسامة سلام يكتب: الإدمان الرقمي.. مصيدة الانتباه في عصر الشاشات
16 أغسطس 2025 12:41 م
دكتور كريم عادل يكتب: مصر وصندوق النقد، علاقة ممتدة أم على وشك الانتهاء؟
14 أغسطس 2025 12:31 م
أكثر الكلمات انتشاراً