الدكتور محمد فؤاد يكتب: عندما يتحوّل الاستثمار العام إلى عبء
الإثنين، 28 يوليو 2025 06:33 م

الدكتور محمد فؤاد
بقلم/ د محمد فؤاد
خلال العقد الأخير، اندفعت الحكومة المصرية في مسار توسعي غير مسبوق في البنية التحتية من شبكات طرق، ومحطات كهرباء، واستثمارات في قطاع الغاز، وتوسعات في الاتصالات وغيره من المشروعات الضخمة.
ورغم أن هذا الزخم قدّم صورة ديناميكية للنمو، إلا أن الواقع التشغيلي بدأ يكشف خللًا أعمق متمثل في غياب منظومة صيانة فعالة تجمع بين مؤسسية التمويل وتكامل التصميم، ما يجعل من هذه الأصول عبئًا متناميًا لا أصلًا مستدامًا.
توسع بلا حماية
بين عامي 2018 و2022، قفز الإنفاق الرأسمالي الحكومي بنسبة تقارب 240%، مدفوعًا بتوجهات توسعية على مستوى المشروعات القومية، ومع هذا فبند الصيانة - رغم محوريته- لم ينمُ سوى بنسبة 27% فقط، وظل يمثل في أحسن الأحوال 3 إلى 5% من إجمالي الاستثمار العام، وهى نسبة متدنية قياسًا بالممارسات الدولية، إذ توصي المؤسسات المالية الكبرى بتخصيص ما لا يقل عن 10 إلى 15% من تكلفة أي أصل رأسمالي لأغراض الصيانة سنويًا، أو ما يعادل 1 إلى 1.5% من الناتج المحلي في الاقتصادات التي تسعى إلى استدامة البنية التحتية.

هشاشة ظاهرة في قطاعات حيوية
وفي الحقيقة فإن الحوادث الأخيرة لم تترك مجالًا للجدل النظري، ففي قطاع الاتصالات، اندلع في 7 يوليو 2025 حريق هائل داخل سنترال رمسيس، أحد أكبر السنترالات في شبكة الاتصالات، ليكشف عما هو أخطر من الحادث ذاته في قطاع يفترض فيه المرونة والاعتمادية، إذ أن الاتصالات في القاهرة الكبرى، وربما في أجزاء من الجمهورية، تعتمد على نقطة تشغيلية واحدة دون نظام بديل فعال.
نجم عن الحادث حالة شلل -عند الحكومة والأفراد- إذ انقطعت الاتصالات المحلية والدولية والتحويلات البنكية وماكينات السحب والدفع الإلكتروني، كما تراجعت شبكة الإنترنت بنسبة 38% تقريبًا خلال ساعات، مما يؤكد غياب مبدأ التكرار الشبكي أو ما يعرف بالـ redundancy، وهو معيار أساسي في شبكات الاتصالات الحديثة.
ويشير هذا المبدأ إلى استخدام تقنيات أو آليات تكرارية في شبكات الاتصالات لضمان استمرارية الخدمة وتقليل تأثير الأعطال أو الانقطاعات، بمعنى آخر، إذا حدث فشل في أحد الأجزاء أو الروابط في الشبكة، فإن الشبكة تحتوي على روابط أو أنظمة احتياطية تقوم بتعويض هذا العطل بشكل فوري.
وفي قطاع الكهرباء أيضا، لم يكن الوضع أفضل، ففي 27 يوليو 2025، خرجت محطة محولات جزيرة الدهب - نقطة تغذية رئيسية للجيزة- عن الخدمة، نتيجة عطل مزدوج في كابلات الجهد المتوسط، وتسبب ذلك في انقطاع التيار عن أحياء بأكملها مثل الهرم وفيصل وساقية مكي والعمرانية، إلى جانب توقف محطات مياه الشرب المرتبطة بالشبكة ذاتها.
الإشكالية ليست في العطل الفني فهو أمر ليس استثنائيًا أو خارج التوقعات، لكن في غياب الاحتياطيات، وضعف قدرة الشبكة على الاستجابة، وعدم توافر بدائل فورية للتغذية، وهو ما كشف مجددًا عن أن التوسعات في قدرات التوليد لم تُقابل باستثمارات مكافئة في شبكات التوزيع أو صيانتها، أو حتى في تأهيل عمالة فنية قادرة على التعامل مع الأعطال بكفاءة وسرعة.
أما في قطاع الغاز الطبيعي، فقد سجلت مصر تراجعًا بنحو 50% في إنتاج الغاز خلال أربع سنوات فقط، رغم أن البنية الأساسية للحقل الأهم “ظهر” لا تزال قائمة، والأزمة هنا ليست في التآكل الفيزيائي للبنية، بل في غياب استثمارات تنمية الآبار، وتعطل برامج الاستكشاف، وغياب الصيانة التنبؤية في وحدات الضغط والربط، وهو ما أدى إلى انخفاض مستمر في الطاقة الإنتاجية وارتفاع الاعتماد على البدائل المستوردة.
كذلك في الطرق، فبينما تتسارع وتيرة تدشين الطرق الحرة والطولية، لا تزال معدلات الحوادث المرورية مرتفعة، وذلك يرجع إلى عوامل متكررة تجمع بين تآكل الأسفلت، وغياب الصيانة السطحية، وضعف الإضاءة، أو تدهور العلامات التنظيمية، ومن قبل ذلك عدم الالتزام بالمواصفات القياسية، وهو ما يعكس بوضوح أن التوسّع الكمي في الأطوال لا يقابله تحسّن نوعي في الخدمة أو الأمان.

التجارب الدولية تُظهر البديل
تُثبت تجارب دولية متعددة أن الصيانة ليست تكلفة، بل حماية للاستثمار، فدول مثل إستونيا التي لا تُنفق كثيرًا على التوسع الإنشائي، اعتمدت سياسة مركّزة لإدارة دورة حياة الأصل وربطها بمؤشرات أداء فني ومؤسسي، ونجحت في تحسين مؤشرات جودة الخدمة من دون تضخم رأسمالي.
وفي مقابل هذه التجربة، هناك ولايات أمريكية مثل إلينوي نفّذت توسعات بنية تحتية ضخمة، لكنها قلّصت موازنات الصيانة بشكل كبير، مما أدى إلى تدهور البنية وتضاعف تكلفة الإصلاح لاحقًا بنسبة فاقت 50%.
وفي مصر، ومع الوتيرة العالية للمشروعات، يبدو أن الفجوة بين التوسع من ناحية وبين آليات الحماية التشغيلية من صيانة ورقابة ومتابعة تتسع عامًا بعد عام، ما ينذر بتحوّل الاستثمارات نفسها إلى مصدر تآكل مالي مستقبلي، وهو ما ظهر جليا في الأمثلة السابق ذكرها.
إصلاح الرؤية لا الميزانية فقط
وعليه، فالحل لا يبدأ بزيادة المخصصات فقط، بل بإعادة تعريف الصيانة كـ”رأسمال مؤجل” لا كبند جارٍ، قابل للتخفيض والإلغاء، ومن ذلك إدراج كلفة الصيانة ضمن دراسة الجدوى الأولية، ويُمول جزء منها ضمن التمويل الكلي للمشروع.
كذلك تحويل موازنات الصيانة من بند تابع للتشغيل إلى مكون أساسي في إدارة الاستثمار، وأيضا فرض استخدام الصيانة التنبؤية، لا الاستجابات الطارئة، خصوصًا في قطاعات الكهرباء والغاز والمياه، وأيضا أن يتم ربط نتائج الأداء الفني للمرافق العامة بمستوى الجاهزية التشغيلية، لا بطاقة التصميم القصوى فقط.
وبالطبع سوف يتأتى ذلك من خلال إنشاء جهة مركزية في القطاعات المختلفة تكون مشرفة على مسائل الصيانة والرقابة على الالتزام بالمواصفات القياسية في عمليات الإنشاء وتوفير الاحتياطات والبدائل تحسبا لأي طارئ.
ما لا يُصان لا يُحتفظ به
تبدو الدولة في حالة سباق مع الزمن لتوسيع بنيتها التحتية، لكن السباق الحقيقي هو في الحفاظ على هذه البنية قبل أن تنهار، خاصة وأن أي مشروع يُهمل صيانته يُكلف الدولة بعد سنوات ثلاثة أضعاف ما كلّفه بناؤه، وأي خط إنتاج لا تُحدَّث وحداته يُصبح عبئًا لا رصيدًا، فالاستدامة لا تبدأ من التوسع، بل مما بعده.
اقرأ ايضًا:
محمد فؤاد يرد على العريان: استقلال البنوك غير قابل للمساومة
الدكتور محمد فؤاد يكتب: في ذكرى «أبو دقشوم والدفاس»
الدكتور محمد فؤاد يكتب.. وحدة الموازنة والبحث عن صندوق خارج الصندوق
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة لتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
حل الأزمة الاقتصادية العالمية قبل دوامات الكساد الكبير
24 يوليو 2025 05:40 م
محمد فؤاد يرد على العريان: استقلال البنوك غير قابل للمساومة
23 يوليو 2025 11:56 ص
مصر والإرهاب الإخواني: معركة الوعي والثبات
20 يوليو 2025 09:33 م
أكثر الكلمات انتشاراً