تضخم بلا مرساة، كيف أسهمت التوقعات المضطربة في تعميق الأزمة الاقتصادية؟
الأحد، 29 يونيو 2025 04:16 م

معدل التضخم
في خضم الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي هزت العالم خلال السنوات الخمس الماضية من الجائحة إلى الحروب التجارية، ومن الصراعات في أوروبا والشرق الأوسط إلى قفزات التضخم العالمي.

برزت التوقعات التضخمية كعامل رئيسي ومحرك خفي للأحداث الاقتصادية، ربما أكثر من السياسات النقدية نفسها، ففي زمن الضبابية الاقتصادية، لم تكن التوقعات مجرد مرآة للمستقبل، بل أداة ساهمت في تشكيله.
ورغم الاهتمام الكبير الذي توليه البنوك المركزية لمفهوم تثبيت التوقعات التضخمية anchoring expectations كدعامة لاستقرار الأسعار، تكشف تجارب السنوات الأخيرة ولا سيما في الولايات المتحدة عن أن تلك التوقعات كانت غير مرساة لدى معظم الفاعلين الاقتصاديين، سواء من الأسر، أو الشركات، أو حتى المشاركين في الأسواق المالية.
اقرأ أيضًَا:
الأسهم الأمريكية تستعد لتحقيق المكاسب وحالة ترقب لبيانات التضخم
أزمة التوقعات.. من المعرفة إلى الفشل
تشير البيانات إلى أن الخروج عن مسار التوقعات المستقرة لم يكن نتاج الصدمة التضخمية فقط، بل بدأ قبلها، واستمر خلالها، ما يعكس وجود خلل أعمق في آليات تكوين التوقعات.
ولعل ما زاد الأمر تعقيدًا، هو أن فترة الصعود الحاد للتضخم دفعت الأفراد والمؤسسات إلى التركيز غير المسبوق على سياسات البنوك المركزية وسلوك الأسعار.
والمفارقة أن هذا الوعي المرتفع بالتضخم لم يكن علامة على نجاح الاتصال المؤسسي، بل على فشل السياسات النقدية في السيطرة على الأوضاع.
فكما هو الحال في الدول ذات التضخم المرتفع مثل الأرجنتين وتركيا، لم يُترجم ارتفاع معرفة المواطنين بمستويات الأسعار إلى نتيجة إيجابية، بل جاء نتيجة إدراكهم لفشل البنك المركزي في السيطرة على التضخم.

شكوك في قدرة السياسة النقدية
يعكس تحليل توقعات التضخم في الولايات المتحدة، كما ورد في "اختبار العين" Eyeball Test، فجوة واضحة بين أهداف الاحتياطي الفيدرالي وتوقعات مختلف الفاعلين الاقتصاديين، خصوصًا خارج دوائر صناع القرار النقدي.
فعلى الرغم من أن أعضاء لجنة السوق المفتوحة الفيدرالية FOMC حافظوا على توقعات تضخم ثابتة عند 2% سواء على المدى القصير أو الطويل.
فإن التوقعات الصادرة عن المشاركين في الأسواق المالية والمتنبئين المهنيين تجاوزت هذا الهدف، لتصل إلى 3% خلال ذروة موجة التضخم، واستقرت مؤخرًا عند حوالي 2.5%، ما يعكس شكوكًا في قدرة الفيدرالي على استعادة الانضباط السعري في المستقبل القريب.
اقرأ أيضًا:
حرب طاقة أم حرب اقتصادية؟، سيناريوهات متصاعدة تدفع العالم نحو ركود تضخمي
توقعات التضخم لدى الأسر والشركات.. خلل هيكلي في الثقة
الأكثر إثارة للقلق، هو السلوك التوقعي لدى الشركات والأسر، حيث ابتعدت توقعاتهم طويلة الأجل عن الهدف النقدي بشكل أكثر حدة.
فقد بلغت توقعات الشركات 9% في عام 2021، فيما ظلت توقعات الأسر في تصاعد حتى بعد انحسار معدلات التضخم الفعلية، وهو ما يعكس ضعفًا في مصداقية السياسة النقدية لدى القطاعين الإنتاجي والاستهلاكي.
واستمرار هذه التوقعات المرتفعة حاليًا 8% للأسر و4.5% للشركات، ويشير إلى أن التضخم غير المرساة unanchored لم يكن مجرد حالة طارئة، بل يعكس خللاً هيكليًا في الثقة تجاه قدرة السياسة النقدية على ضبط الأسعار، ما قد يعقد جهود استقرار الاقتصاد الكلي في المستقبل القريب.

التباين الحاد في توقعات التضخم.. خلل في التوازن الإدراكي للسوق
إن مجرد تطابق متوسط التوقعات مع هدف البنك المركزي 2% لا يعني أن التوقعات مرسوخة، بل قد يُخفي هذا المتوسط انقسامًا حادًا بين المتفائلين والمتشائمين.
فمثلًا، متوسط توقع يبلغ 2% قد يعكس نصفًا يتوقع انكماشًا بنسبة -1% ونصفًا آخر يتوقع تضخمًا بـ5%، ما يعني انعدام الاستقرار المعرفي.
في هذا السياق، تُظهر البيانات أن المتداولين في أسواق السندات المرتبطة بالتضخم هم الأكثر توافقًا في توقعاتهم، في حين زاد التباين لدى المحللين المحترفين خلال موجة التضخم.
الأكثر لفتًا للنظر أن الأسر الأميركية كانت تعاني من مستوى مرتفع من الخلاف قبل الأزمة، إلا أن التباين ارتفع بشكل مطرد خلال موجة التضخم واستمر حتى بعد الانخفاض النسبي للأسعار، ليبلغ مستويات غير مسبوقة بحلول عام 2025.
اقرأ أيضًا:
رغم التوترات، التضخم يواصل الهبوط عالميًا
الانقسام السياسي وتفاقم التباين.. التضخم كمرآة للقطيعة الحزبية
من أبرز مظاهر اضطراب التوقعات التضخمية في الولايات المتحدة، هو العلاقة المتنامية بين الانتماء السياسي وتقدير معدلات التضخم المستقبلية.
ففي عام 2016، بعد انتخاب ترامب، كان هناك فارق قدره 2 نقطة مئوية بين توقعات الديمقراطيين والجمهوريين، هذا التباين تضاعف خلال إدارة بايدن ليصل إلى 4 نقاط مئوية، واليوم، في عام 2025، بلغ قرابة 10 نقاط مئوية، حيث يتوقع الجمهوريون تضخمًا صفريًا 0%.
بينما يتوقع الديمقراطيون تضخمًا يقارب 10%، والأخطر أن هذا الانقسام لم يقتصر على الحزبية بين الفئات، بل ظهر أيضًا داخل كل حزب، مما يشير إلى تفتت إدراكي واسع النطاق بشأن مستقبل الأسعار.
وبالنسبة للشركات، أظهرت بيانات SoFIE أنها تتأرجح بين مستويات تباين تشبه الأسر أو المحترفين، لكنها خلال موجة التضخم سجلت ارتفاعًا كبيرًا في الخلاف، بخلاف الأسر التي استمر تباينها حتى مع تراجع التضخم.

الكلفة الاقتصادية للتباين والضبابية.. تراجع الإنتاجية وتآكل الثقة
لا يقتصر خطر تباين التوقعات على الناحية النفسية أو الإعلامية، بل يمتد إلى سوء تخصيص الموارد وارتفاع تكاليف التضخم.
إن زيادة الخلاف في توقعات التضخم بين الشركات الإيطالية خلال الأزمة أدت إلى سوء توزيع للإنتاجية تسبب بخسارة رفاهية تعادل انخفاضًا في الناتج الكلي TFP بنسبة تتراوح بين 2% إلى 7%.
هذه التكاليف تتجاوز الآثار التقليدية للتضخم، وعلى الجانب الآخر، تتضح عدم اليقين كمؤشر موازي لقياس ترسخ التوقعات، فقد ارتفعت الضبابية لدى الأسر بشكل ملحوظ خلال موجة التضخم، ثم تراجعت نسبيًا، لكنها عاودت الارتفاع في 2025.
أما المحللون المحترفون فبلغ متوسط الانحراف المعياري لتوقعاتهم السنوية حوالي 0.5%، مع ارتفاع ملحوظ خلال الجائحة ومرة أخرى في عام 2023.
ورغم غياب بيانات مباشرة عن الشركات، يُرجح أن تكون مستويات عدم اليقين لديها مشابهة للأسر، خاصة مع استمرار ارتفاع مؤشرات عدم اليقين في السياسات العامة المتمثلة في التعريفات الجمركية، تغييرات ضريبية، اضطرابات سوق العمل.
هذه الضبابية تنعكس سلبًا على قرارات الإنفاق والاستثمار، بل وتُؤدي إلى تسعير غير رشيد، ما يُفاقم من اختلال السوق ويُضعف الثقة في قدرة الاحتياطي الفيدرالي على ضبط التضخم.
اقرأ أيضًا:
إغلاق هرمز، الطريق الأسرع نحو تضخم عالمي وصدمات اقتصادية عابرة للقارات
دروس سلوكية للبنوك المركزية
أحد أهم الدروس المستخلصة، هو أن درجة انتباه الفاعلين الاقتصاديين للتضخم تتغير تبعًا للبيئة الاقتصادية، فعندما كانت معدلات التضخم مرتفعة، تراجعت الفجوة بين ما يشعر به الأفراد وما تقيسه البيانات الفعلية، كما ارتفعت معرفة الناس بأهداف التضخم الرسمية.
هذا التغير السلوكي له تبعات كبيرة على السياسات الاقتصادية المستقبلية، فعلى سبيل المثال، تأثير صدمة مثل فرض الرسوم الجمركية قد يكون مضاعفًا في أجواء الانتباه العالي مقارنة بفترة ركود الاهتمام، وهو ما يعني أن التجارب السابقة، مثل حرب الرسوم 2018–2019 لم تعد مؤشرًا موثوقًا للتنبؤ بتأثير صدمات مماثلة اليوم.

المشهد الكلي.. ما وراء العرض والطلب
رغم أن انتعاش سوق العمل بعد الجائحة لعب دورًا في إطلاق شرارة التضخم، إلا أن الجزء الأكبر من موجة الارتفاع يعود إلى عاملين اثنين:
- ارتفاع التوقعات التضخمية بشكل غير مسبوق،
- الصدمة في جانب العرض العالمي.
وبينما بدأت التوقعات قصيرة الأجل في الانخفاض بعد ذروة الأزمة، فإنها لا تزال مرتفعة مقارنة بما كانت عليه قبل 2020، وهذا ما يثير سؤالًا محوريًا، هل تغيرت طريقة تفكير الأسواق إلى الأبد؟
اقرأ أيضًا:
الفيدرالي الأمريكي يرفع تقديرات البطالة والتضخم ويتمسك بتثبيت الفائدة
نحو سياسة نقدية جديدة؟
تشير هذه التحولات إلى ضرورة إعادة تقييم أدوات البنوك المركزية، ليس فقط من حيث حجم الاستجابة أو توقيتها، بل من حيث مصداقيتها وتأثيرها على سلوك الفاعلين الاقتصاديين.
فتثبيت التوقعات لم يعد مهمة فنية فقط، بل أصبح تحديًا سلوكيًا يتطلب فهمًا أعمق لتفاعلات الجمهور مع التضخم، ومراجعة لآليات التواصل التي تتجاوز الشعارات الرسمية.
يمكن القول إن المعركة ضد التضخم لا تُخاض فقط عبر أسعار الفائدة، بل أيضًا في عقول الناس، فإذا كانت التوقعات هي من قادت الأزمة، فإن استعادتها إلى مسارها المنضبط ستكون مفتاح الخروج منها.
تابع موقع إيجي إن عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، وبالاضافة لتغطية ومتابعة على مدار الـ 24 ساعة، لـ أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
الذكاء الاصطناعي يهدد ويخدع ويضع العالم أمام تحدي الاستغناء عنه أو مواجهته
29 يونيو 2025 04:15 م
كشف أثري جديد في أسوان، 3 مقابر صخرية من عصر الدولة القديمة بقبة الهوا (صور)
29 يونيو 2025 12:36 م
صعود قطاع "المساعدين عن بعد" في الفلبين، مكاسب اقتصادية غير تقليدية
29 يونيو 2025 12:37 م


أكثر الكلمات انتشاراً