الثلاثاء، 01 يوليو 2025

07:22 ص

الدكتور محمد فؤاد يكتب.. وحدة الموازنة والبحث عن صندوق خارج الصندوق

الأحد، 29 يونيو 2025 06:22 ص

الدكتور محمد فؤاد

الدكتور محمد فؤاد

محمد فؤاد

في صلب أي نظام مالي رشيد، تقوم الموازنة العامة للدولة بدور المفصل الحاكم الذي يتقاطع عنده القرار الاقتصادي مع السلطة التشريعية والأهداف المجتمعية الكبرى، إلا أن الممارسة الفعلية في الحالة المصرية تكشف تراجعا متراكمًا عن هذا المفهوم، باتجاه نمط مؤسسي مشوّه، قوامه تفتيت الموارد وتعدد أوعية الإيراد والإنفاق، خارج نطاق الموازنة الموحدة.

كما أنه وسط الحديث المتكرر عن تعظيم الاستفادة من أصول الدولة خلال السنوات الأخيرة، قد نشأت وتكاثرت كيانات مالية تحمل صفات عامة، لكنها تعمل خارج بنية الدولة المالية الرسمية، وتم ذلك النمو الأفقي دون تخطيط شامل لإعادة بناء المالية العامة، بل كان استجابة ظرفية لضغوط تمويلية أو تصورات مرنة للإصلاح، فتحوّل مع الوقت إلى نمط مستقر يهدد صلب الحوكمة الاقتصادية.

تاريخيًا، بدأت مصر من مركزية صارمة في المالية العامة خلال الستينيات والسبعينيات، مدفوعة بثقافة الدولة التنموية، لكن مع تعقّد الإدارة وغياب إصلاح حقيقي في نموذج الإيراد والإنفاق، ظهرت الهيئات الاقتصادية بموجب القانون 61 لسنة 1963 كأذرع تشغيلية مستقلة نسبيًا لإدارة الأنشطة الإنتاجية والخدمية للدولة.

وبحلول الثمانينيات، أصبح لدينا نحو 50 هيئة، بعضها يحقق فائضًا اسميًا، لكن الغالبية تعتمد على دعم مباشر أو غير مباشر من الخزانة، وقد قُدرت جملة استخدامات الهيئات الاقتصادية في مشروع موازنة 2024/2025، بأكثر من 430 مليار جنيه، دون أن ينعكس أداؤها على التصور الكلي للوضع المالي للدولة.

ثم ظهرت الصناديق الخاصة بموجب المادة (20) من القانون 127 لسنة 1981 بشأن المحاسبة الحكومية، كأداة لتجاوز قيود الصرف العام، وبتوسع تنظيمي في العقود التالية، وقد تجاوز عددها 6,000 صندوق، بأرصدة بلغت 36 مليار جنيه في بداية العقد الماضي، واستمرت تعمل بمنطق خارج الموازنة، بما يتنافى مع الشفافية المالية والمساءلة المؤسسية.

هذا النمط المؤسسي لم يأت من فراغ، بل يُشكّل نتاج نبوءة ذاتية التحقق.. يبدأ التشرذم، فتعجز المالية المركزية عن الاستجابة، فتُنشئ كل جهة قناة تمويلية خاصة بها، ما يُضعف الإطار العام أكثر، فيستمر التشرذم ويتكرّس كقاعدة، لتستقر على المشهد دورة جهنمية تقوّض مبدأ الدولة الواحدة، وتستبدل وحدة الحساب بوحدة مصلحة كل كيان.

وفي هذه البيئة، جاء الصندوق السيادي المصري بموجب القانون 177 لسنة 2018 كفكرة طموحة لإعادة هيكلة أصول الدولة وتحقيق عائد تجاري من الأصول غير المستغلة، ورغم أن الفكرة -في تقديري- لم تكن خاطئة، بل جاءت في توقيت يتطلب أدوات جديدة لتوليد القيمة.

فكنت في طليعة من طالبوا بتوظيف الصندوق كأداة استراتيجية للتفكيك الآمن لتشابكات الأصول العامة، لكن، كما جرى مع تجارب مؤسسية أخرى، ما لبث أن تحوّل هذا الصندوق إلى مجرد إضافة جديدة على خارطة التشرذم، وبدلا من أن يكون منصة تنسيق، بات يُعامل كاستثناء آخر، خارج الموازنة، مستقل الحوكمة، يُستدعى لحل أزمة، أو تهدئة تصور، ثم يُركن مؤقتًا في انتظار الصندوق التالي.

فما يُفترض فيه أن يكون أداة تحويل استراتيجية، أصبح مفعوله مرهونًا برد الفعل المؤسسي وليس برؤية مالية مركزية، ومن هنا، لا تُعد المشكلة في وجود الصندوق ذاته، بل في توظيفه في بيئة ترفض بطبيعتها الدمج وتُكرّس الاستثناء، وهو نمط لطالما حذرت منه؛ فحين لا تؤمن الدولة بالمسار المؤسسي الكامل، تتحول الكيانات الجديدة من أدوات إصلاح إلى مجرد ردود فعل.

هذا الواقع يُعيد إلى الأذهان تحذيرات الحاصل على نوبل جوزيف ستيغليتز، الذي يرى أن تجاوز الموازنة العامة عبر أنشطة غير مدرجة يُقوّض الثقة العامة، ويضعف أدوات المحاسبة، ويحوّل الإدارة المالية إلى شبكة مغلقة من الحسابات المنفصلة، خاصة وأنه حين لا تعرف الدولة أين تقع أصولها فعلًا، فلا يمكن أن تطمح في بناء سياسة مالية متماسكة.

وتزداد هذه الإشكالية تعقيدًا حين ندرك أن كثيرًا من الدين السيادي الخارجي لم يعد يُقابل إنفاقًا عامًا مباشرًا، بل يرتبط بتمويل هيئات وصناديق خارج الموازنة، ما يجعل وزارة المالية غارمة لا مالكة، وهذا الفصل بين من يتحمل الدين ومن يستهلك التمويل يعكس تحولًا تدريجيًا إلى ما تسميه الأدبيات الاقتصادية الحديثة بـ”الدولة الكوربوراتية”.

فكما تشير الباحثة خديجة بوعامر، فإن الدولة حين تتخلى عن وحدتها المالية، تتحول إلى كيان مؤسسي هجين، تُدار فيه الأصول العامة وكأنها محافظ شركات، وتُختزل فيه الموازنة إلى عملية جباية وسداد، لا إلى أداة سيادية للتوزيع والتحفيز والاستثمار.

ولعل ما يزيد المفارقة حدة، أن كل هذا التفتيت جرى تحت شعار التنمية وتسريع النمو، بما يفرض تساؤل جوهري مضمونه: بعد نصف قرن من توالد الكيانات والاستثناءات، هل نجحت الدولة فعليًا في تسريع التنمية؟ هل تحسّن توزيع الدخل أو زادت إنتاجية القطاع العام؟ أم أن الدولة خلقت طبقة مؤسسية قائمة بذاتها، تسمن على حساب المال العام، دون مساءلة مركزية، أو أثر قابل للقياس على النمو الحقيقي؟

وفي هذا السياق، لا يمكن تجاهل المقترح الذي قدمه الدكتور محمود محيي الدين في منتصف الألفينات بإنشاء صندوق للأجيال القادمة، حين كانت مصر تستفيد من تدفقات استثنائية -من الخصخصة، وفوائض البترول، وقفزات في إيرادات القناة والسياحة، إذ كانت الفكرة أن يُعاد تدوير هذه الفوائض في كيان استثماري طويل الأجل، يُدار بحوكمة مستقلة، ويُفصل فيه القرار الاستثماري عن تقلبات القرار السياسي، ليحفظ القيمة للأجيال القادمة ويحصّن المالية العامة من صدمات المستقبل.

كانت الفكرة واضحة: استخدام الفوائض المؤقتة لبناء قدرة دائمة، ولم تكن فلسفة الصندوق أداة لإدارة العجز أو سد فجوات تمويلية آنية، بل لتحويل الثروة العابرة إلى أصل دائم، وهذه هي الفكرة التي حاول الصندوق السيادي المصري لاحقًا الاقتراب منها، لكنه دخل سريعًا في دورة الاستخدام الظرفي، وفقد زخمه المؤسسي.

أما الآن، فحين يُطرح مجددًا مشروع “صندوق أجيال مصر”، فإن السؤال المركزي لا يكمن في الاسم أو الشكل القانوني، بل في النية المؤسسية: هل نحن بصدد إحياء فكرة بنيوية تأخرت، أم إعادة إنتاج لسردية “الصندوق خارج الدولة” في نسخة جديدة؟ و إستمرار لمنهجية "صندقة" المالية العامة.

فالموازنة العامة لم تعد تعكس سوى الجزء الظاهر من جبل الجليد المالي، وفي ظل فجوة تمويلية سنوية تتجاوز 1.5 تريليون جنيه، لا يمكن الحديث عن تعظيم الموارد في ظل إدارة مشتتة ومفصولة عن جسم الدولة الحقيقي، فكما ذكرت آنفا، فالدولة لا تُقاس فقط بما تنفقه، بل بما تعرفه عن نفسها ماليًا.

وربما آن الأوان للتأمل فيما إذا كان كل هذا التمدد المؤسسي، الذي تمّ تحت لافتات التنمية والتحديث، قد نجح فعليًا في تجاوز قيود الدولة الريعية، أم أنه كرّسها في بنية أكثر تعقيدًا، وأكثر انعزالًا عن الموازنة والرقابة والفهم الكلي للمخاطر.

قد تكون الحاجة إلى صندوق جديد – أيًا كانت تسميته – تعبيرًا عن رغبة دفينة في إصلاحٍ لم يكتمل، لكن الإصلاح لا يبدأ من الخارج. الدولة لا تُبنى من الصناديق إلى الداخل، بل من الموازنة إلى الخارج.. حين تُستعاد وحدة الحساب، تُستعاد الدولة.

Short Url

showcase
showcase
search