الجمعة، 02 مايو 2025

09:17 م

«من التغريدة إلى الانهيار»، كيف يُشعل السياسيون أسواق المال بنقرة واحدة

الجمعة، 02 مايو 2025 10:54 ص

الأسواق المالية تنهار

الأسواق المالية تنهار

كتب/ كريم قنديل

في كل مرة تنهار فيها الأسواق، تتسابق العناوين لتصف ما يحدث بأنه «بيع بدافع الذعر»، وكأن المتداولين أصابهم الهلع فجأة، يضغطون الأزرار بعشوائية، وتنهار الأسعار بسبب خوف جماعي جامح، هذا الوصف يبدو مريحًا لأنه يقدّم تفسيرًا إنسانيًا بسيطًا، لكنه لم يعد دقيقًا في عالم اليوم. 

الأسواق المالية

ما يحدث في الأسواق لم يعد انعكاسًا للفوضى النفسية بقدر ما هو نتيجة تفاعل مبرمج، يحدث داخل نظام مالي صار مترابطًا بشكل مفرط ومنظّم إلى درجة تجعله هشًا بطبيعته.

اليوم، عندما تهتز الأسواق، لا يكون السبب غالبًا عاطفيًا، بل ناتجًا عن مجموعة تعليمات مخزّنة في الأنظمة، تستجيب بشكل متزامن لأي صدمة أو حتى مجرد إشارة، نحن لا نعيش في عالم تتحكم فيه المشاعر وحدها، بل في عالم تتحكم فيه النماذج، والخوارزميات، والمعايير التنظيمية التي تجبر الجميع على التصرّف بنفس الطريقة، في نفس اللحظة.

منشور واحد.. وسوق عالمي يشتعل

الدليل الأوضح على ذلك جاء من منشور واحد فقط، كتبه دونالد ترامب على منصته Truth Social قبل أيام قليلة، قال فيه، "الآن وقت رائع للشراء"، لم تكن الجملة طويلة، ولا مدروسة بعمق اقتصادي، لكنها جاءت في توقيت بالغ الدقة.

قبل ساعات من إعلانه عن تعليق مؤقت لبعض الرسوم الجمركية، ما حدث بعد ذلك كان مذهلًا، مؤشر S&P 500 قفز بأكثر من 7%، وتدفقت الأموال إلى الأصول الخطرة حول العالم.

الأسواق لم ترتفع لأنها درست الوضع الاقتصادي أو توقعت تحسناً جوهريًا، بل لأنها تلقّت إشارة قوية من شخصية سياسية مؤثرة، تلاها قرار سياسي رسمي، فبدأت النماذج تُفعّل، والأوامر تُنفّذ، والخوارزميات تتحرك، لم يكن ذلك ذعرًا، بل كان اشتعالًا متعمدًا، ونجح بفعالية تثير القلق.

أسواق المال

عندما تتحرك الخوارزميات كأنها جمهور مذعور

ما حدث ليس مفاجئًا إذا نظرنا إلى البيئة المالية التي نعمل ضمنها، البنوك والصناديق الاستثمارية والمؤسسات الكبرى حول العالم أصبحت تعمل ضمن نفس الإطار تقريبًا، بازل III وIV تضعان معايير رأس المال والتعرض للمخاطر. 

IFRS 9 يفرض تسجيل الخسائر بشكل مبكر، اختبارات الضغط تُجبر الجميع على الاستعداد لنفس السيناريوهات، النتيجة؟ في لحظة الضغط، الجميع يتصرّف بنفس الطريقة.

لم يعد السوق مكانًا لتفاوت الرؤى والمخاطرة الذكية، بل ساحة تزامن صارم، الأوامر تُنفّذ جماعيًا، السيولة تنتقل من قطاع لآخر في نفس اللحظة، وتحدث حركات حادة تشبه الموجات، لكنها في الحقيقة ليست موجات خوف، بل أوامر مؤتمتة تعمل وفق منطق النظام.

توحيد القواعد يساوي تعميم الضعف

في السابق، كانت الأسواق تختلف في سلوكها، كل حسب ثقافتها المالية وظروفها المحلية، أما اليوم، فقد أصبح التوحيد التنظيمي العالمي نقطة ضعف لا يُستهان بها. 

كلما زاد التشابه، زادت قابلية الاستجابة الجماعية، وكلما زادت الاستجابة الجماعية، زادت احتمالات الانهيار المتسلسل، هذا النظام، الذي بُني لحماية الأسواق من الانهيارات، أصبح في ذاته قناة للعدوى.

والأخطر من ذلك، أن هذا النظام يمكن التلاعب به بسهولة، لا تحتاج إلى صدمة اقتصادية حقيقية، بل إلى شخصية نافذة، توقيت مدروس ورسالة محسوبة، ما كان يُعتبر «تغريدة» في السابق، أصبح الآن «زنادًا» يمكنه تحريك مليارات الدولارات بلحظة واحدة.

ترامب والأسواق المالية

الأسواق لم تعد تتحرك عشوائيًا.. بل بتصميم

ما نراه في الأسواق لم يعد نتيجة مفاجئة لظروف اقتصادية أو لتغير مفاجئ في معنويات المستثمرين، ما نراه هو نتيجة متوقعة داخل نظام مصمم للاستجابة، العاطفة لم تختف، لكنها لم تعد المحرك، بل أصبحت الشرارة. 

الشرارة التي تفعّل نداءات الهامش، وتُطلق نماذج إدارة المخاطر، وتدفع الخوارزميات إلى تنفيذ نفس الاستراتيجيات في الوقت نفسه.

لقد تم صنع نظامًا انعكاسيًا يمكن توقعه، وبالتالي يمكن التلاعب به، وبهذا المعنى أصبحت القفزات والانهيارات في الأسواق ليست حوادث طارئة، بل نتائج مبرمجة تحتاج فقط لمن يعرف متى وكيف يضغط الزر.

نحو سيادة تنظيمية محلية مرنة

كل هذا يطرح سؤالًا عميقًا، هل أصبح النظام المالي العالمي مترابطًا أكثر من اللازم؟ وهل آن الأوان لإعادة التفكير في هذا التوحيد التنظيمي المفرط؟ الأمر لا يتعلق برفض التعاون الدولي، بل بضرورة بناء توازن جديد بين التنسيق العالمي والسيادة المحلية.

يجب أن تملك الدول القدرة على مواءمة قواعد رأس المال وإدارة المخاطر بما يتناسب مع واقعها الاقتصادي، كما يجب أن تطوّر أدوات قادرة على كشف التلاعب وتحليل مسببات التحركات المفاجئة، لا مجرد مراقبة نتائجها. 

فطالما بقيت الأنظمة تستجيب بشكل جماعي لنفس المحفزات، سيظل الباب مفتوحًا أمام السياسيين والشخصيات النافذة لاستخدام الأسواق كسلاح، أو وسيلة نفوذ.

الذكاء الاصطناعي وأسواق المال

الذكاء السياسي يتفوق على الذكاء الاصطناعي

نظامنا المالي اليوم أكثر تقدمًا تقنيًا من أي وقت مضى، لكنه أيضًا أكثر هشاشة، لقد أصبح الذكاء السياسي، لا الذكاء الاصطناعي، هو اللاعب الأهم. 

من يفهم طريقة عمل النظام، يمكنه قيادته بجملة واحدة، ومن هنا، لم يعد انهيار السوق حدثًا غامضًا، بل سيناريو مُتكرر، ينتظر فقط من يُشعل الفتيل.

إذا أردنا نظامًا أكثر استقرارًا، فعلينا أولًا أن نعترف بالحقيقة: الأسواق لا تخاف.. إنها تطيع.

Short Url

search