الخميس، 02 أكتوبر 2025

04:58 م

دكتور تامر مؤمن يكتب.. السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية من رؤية طموحة إلى خارطة طريق للتنفيذ

الخميس، 02 أكتوبر 2025 10:50 ص

دكتور تامر مؤمن

دكتور تامر مؤمن

إن تحقيق رؤية مصر 2030، التي تستهدف نموًا اقتصاديًا يتراوح بين 6% و8%، لن يتم إلا بتحويل المؤشرات الكلية إلى تحسينات ملموسة في حياة المواطن وهذا ما تناولته بمقالي السابق بعنوان "الاقتصاد المصري: مفارقة مؤشرات النمو والشعور بالتحسن الاقتصادي للمواطن المصري" فالرخاء لا يعني ارتفاع الأجور فقط، بل يتطلب أن يرى المواطن انعكاس النمو في جيبه، وفي جودة الخدمات التي يتلقاها، وفي شعوره بالعدالة والإنصاف في مجتمعه.

 إنها عملية قد تكون طويلة الأمد وليست بالسهلة، لكن بالإرادة السياسية الراسخة، والالتزام بالإصلاحات الهيكلية، والتواصل الفعال الذي يبني الثقة، يمكن لمصر أن تسد فجوة الرخاء والتواصل، وتترجم الإنجازات الاقتصادية إلى واقع ملموس في حياة كل مصري، وهو الهدف الأسمى للتنمية المستدامة القائمة على الإنتاج والتمكين وتحقيق الرخاء للمواطن. 

وفي خضم التحديات الجيوسياسية والاقتصادية العالمية المتسارعة، وما تفرضه من ضغوط تضخمية وعجز في الحساب الجاري، لم يعد ترفاً أن تمتلك الدول خططاً، بل أصبح لزاماً عليها أن تمتلك "سردية موحدة" لهذه الخطط.

من هذا المنطلق، يمثل إطلاق "وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية والتعاون الدولي" لـ "السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية: السياسات الداعمة للنمو والتشغيل في سبتمبر 2025، وذلك بحضور رئيس مجلس الوزراء وعدد من كبار المسؤولين والوزراء وممثلي القطاع الخاص والشركاء الدوليين." نقطة تحول منهجية بالغة الأهمية في مسار الإصلاح الاقتصادي المصري، فهي ليست مجرد وثيقة تقنية أو خطة قطاعية، بل إطار استراتيجي جامع يرسم ملامح المستقبل الاقتصادي للدولة ويُعيد صياغة خطابها التنموي داخليًا وخارجيًا.

إن وجود "رؤية مصر 2030" وخطط التنمية الخمسية ليس كافياً بحد ذاته. فالرؤية تبقى إطاراً استراتيجياً بعيد المدى، بينما تظل الخطط التنفيذية قصيرة الأجل معرضة للتشتت وتضارب الأولويات الوزارية.

تأتي السردية الوطنية هنا لتكون "الجسر التكاملي" و"لغة الحوار الموحدة" التي تترجم الطموح الاستراتيجي إلى برنامج إصلاح هيكلي واضح ومحدد الأهداف الكمية، يضمن التناسق بين السياسات المالية والنقدية والقطاعية، ويوجه رسالة لا لبس فيها للقطاع الخاص والمستثمر الدولي.

ما هي السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية؟

السردية الوطنية تمثل الهوية الاقتصادية الرسمية للدولة المصرية في المرحلة المقبلة، فهي بمثابة “قصة وطنية” متكاملة تروي للمستثمرين والمواطنين والشركاء الدوليين ما هي أولوياتنا، وكيف نخطط لتحقيقها، وما الرسائل التي نريد ترسيخها عن اقتصادنا. إنها محاولة لتحويل السياسات الإصلاحية إلى خطاب مترابط ومقنع، يختصر أهدافنا الكبرى في ثلاثية واضحة: الاستقرار، الاستثمار، والاستدامة.

وتظهر كلمة "السردية" في الوثيقة لتعكس طبيعتها التراكمية التفسيرية، فهي تربط بين الأحداث والإجراءات والمستهدفات، وتحدد معالم العلاقة بين الدولة والمجتمع والقطاع الخاص، في سعي جماعي لتأسيس نمو شامل ومستدام ينطلق من قاعدة وطنية صلبة، ويعكس خصوصية السياق المصري.

وانطلاقًا من أحكام قانون التخطيط العام للدولة رقم 18 لعام 2022، وقانون المالية العامة الموحد رقم 6 لعام 2022، تملك السردية الوطنية قوة إلزامية مؤسسية، إذ تحوّل الأهداف الاقتصادية وتنفيذ البرامج القطاعية إلى التزام صريح على كافة الوزارات والجهات الحكومية، بإشراف محدد من وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.

لماذا هي مهمة؟ تأتي أهمية هذه السردية من كونها أداة لإعادة بناء الثقة في الاقتصاد المصري بعد سنوات من التحديات العالمية والإقليمية. فعندما يكون للبلد قصة اقتصادية واضحة ومتماسكة، تقلّ درجة الغموض أمام المستثمرين، وتزداد القدرة على جذب رؤوس الأموال الأجنبية، كما يسهل تعبئة الموارد الداخلية وتوجيهها نحو القطاعات الأكثر إنتاجية. فالأمر لا يتوقف عند الاستثمار فقط، بل إن السردية الوطنية تمنح المواطن العادي إحساسًا بوجود بوصلة اقتصادية واضحة، تعكس أن الإصلاح ليس مجرد أرقام في تقارير مالية، بل مسار تنموي يهدف لخلق فرص عمل، رفع مستويات الدخل، وضمان عدالة توزيع ثمار النمو.

تحليل الركائز الأساسية للسردية الوطنية للتنمية الاقتصادية 

قامت السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية على ركائز محورية تعكس تحولاً جذرياً في الفلسفة الاقتصادية للدولة ويمكن تلخيصها في ست محاور أساسية

المحور الأول: ترسيخ استقرار الاقتصاد الكلي

يُركز هذا المحور على ضبط السياسات المالية والنقدية، من خلال سياسات إنفاق حكومي رشيد وإيرادات متوازنة وحيز مالي مرن يسمح بتوسيع الإنفاق على التنمية البشرية والحماية الاجتماعية في مواجهة الصدمات الدولي، ويشمل تفعيل أدوات تمويل التنمية المحلية والدولية، بهدف رفع نسبة الاستثمارات الخضراء إلى 70% من إجمالي الاستثمارات بحلول العام 2030، وتخفيض الدين العام وتحسين الإدارة الضريبية، وربط كل ذلك بخطط موازنيه متوسطة الأجل لضمان الاتساق والاستدامة.

هذا المحور يؤكد أن الاستقرار ليس هدفاً نهائياً، بل شرط لازم للنمو المستدام. في ظل ارتفاع مستويات الدين وتحديات التمويل الخارجي، تضع السردية الانضباط المالي والنقدي على رأس الأولويات، مع التركيز على إصلاحات هيكلية للموازنة العامة وليس مجرد إدارة أرقام.

المحور الثاني: إعادة تعريف دور الدولة وتمكين القطاع الخاص

لعل هذا هو العمود الفقري للسردية؛ فهدفها هو تحويل الدولة من لاعب رئيسي ومنافس إلى مُنظِّم ومُحفِّز للنمو.

تفعيل وثيقة سياسة ملكية الدولة وإتاحة المجال واسعاً أمام القطاع الخاص لقيادة الاستثمار، هو المسار الوحيد لرفع كفاءة تخصيص الموارد وتحقيق النمو الذي يولد الوظائف والدخل المستدام. فالدولة يجب أن تكون ضامناً للمنافسة العادلة ومنظماً لبيئة الأعمال لا شريكاً منافساً فيه.

وتشير الوثيقة صراحة إلى انسحاب الدولة تدريجياً من النشاط الاقتصادي التشغيلي، والتحول إلى دور المنظم والمحفز للشراكة مع القطاع الخاص والاستثمار الأجنبي، مع الحفاظ على وجود الدولة في بعض القطاعات الاستراتيجية أو الشراكات الكبرى.

كما أُنشئ "مؤشر سياسة ملكية الدولة" الذي يجري تطويره بالتعاون مع مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار، ليقيس مدى تنفيذ التخارج الشفاف من الأنشطة غير التنافسية العامة، وتعزيز الحياد التنافسي وضمان صعود القطاع الخاص كمحرك للنمو

 المحور الثالث: التنمية الصناعية والتحول نحو القطاعات القابلة للتداول والتصدير

الرهان على قطاعات الخدمات غير القابلة للتداول داخلياً لم يعد مجدياً.  فالسردية تحدد بوضوح أهمية التوجه نحو "خلخلة" قطاعات الاقتصاد الحقيقي وزيادة مساهمة الصناعات التحويلية، والزراعة، والسياحة، والطاقة المتجددة.

والهدف هنا ليس فقط تحقيق نمو في الناتج المحلي الإجمالي، بل تحقيق نمو يولد إيرادات مستدامة بالعملات الأجنبية ويحسن ميزان المدفوعات ويهدف إلى دفع عملية تصنيع محلي عميق، وزيادة القدرة التصديرية لمصر بنسبة 20% سنوياً، وخاصة للصناعات التحويلية التي لها قيمة مضافة عالية وحضور في الأسواق الدولية ويشمل ذلك مواجهة تحديات العوائق الجمركية وآليات تعديل الحدود الكربونية الأوروبية، وتحفيز الابتكار والربط بين التعليم الفني وحاجات الصناعة

المحور الرابع: الاستثمار الأجنبي المباشر

يُعد الاستثمار الأجنبي ليس فقط وسيلة لتمويل الفجوة، بل أيضًا أهم قاطرة حديثة لنقل التكنولوجيا والمعرفة، وإدماج الاقتصاد المصري في سلاسل القيمة العالمية.

يُركز هذا المحور على تهيئة البيئة الاستثمارية عبر تحسين مؤشر بيئة الأعمال وتسهيل الإجراءات، وتعزيز الشراكة مع الشركات الناشئة وريادة الأعمال، ووضع خارطة للقطاعات الواعدة لاستقطاب رؤوس الأموال الأجنبية في القطاعات ذات القيمة المضافة.

المحور الخامس: كفاءة ومرونة سوق العمل

تهدف السياسات الجديدة لسوق العمل إلى انتشال الشباب والنساء من حالة البطالة والعمالة غير الرسمية، وربط المهارات المستقبلية بحاجات الاقتصاد، عبر برامج التدريب المهني وتحسين التعليم الفني وإطلاق مجالس مهارات قطاعية ومرصد وطني لتخطيط الاحتياجات حتى 2030. كما تعمل على إدماج المزيد من الفئات في الاقتصاد الرسمي وتعزيز ريادة الأعمال.

المحور السادس: التخطيط الإقليمي وتوطين التنمية

يُركز هذا المحور على تحقيق تكافؤ التوزيع الجغرافي للاستثمارات والخدمات، وتوطين أهداف التنمية المستدامة في المحافظات، مع إتاحة المشاركة المجتمعية والاعتماد على البيانات الإحصائية الدقيقة في توجيه الموارد للمناطق الأكثر احتياجاً، يُلحق بذلك سعي الدولة لتحديد فجوات التنمية مكانياً، وتفعيل منصة لرصد ومتابعة مؤشرات التنمية المستدامة.

وفي رأى أن نجاح السردية الوطنية يكمن ليس فقط في جودة الوثيقة، بل في آليات التنفيذ والالتزام بهذه الآليات.

وفي هذا الصدد، أقدم رؤيتي ومقترحاتي لدعم مسيرة نجاح هذه السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية

تبنى رؤية "المنظم والشريك لا المنافس" 

إن العنصر الأكثر حساسية هو التزام الدولة بالخروج من الأنشطة الاقتصادية غير الاستراتيجية مع الحفاظ على وجود الدولة في بعض القطاعات الاستراتيجية أو الشراكات الكبرى كما إشارات السردية ويجب أن تُترجم وثيقة سياسة ملكية الدولة إلى جدول زمني ملزم وشفاف لعمليات التخارج والشراكة، فالمستثمر المحلي والأجنبي يراقب الأفعال أكثر من الأقوال، وتحرير عوامل الإنتاج هو المحك الحقيقي لنجاح السردية.

تفعيل التخطيط الإقليمي (العدالة المكانية)

يجب أن يتحول محور التخطيط الإقليمي من مجرد توزيع استثمارات إلى تطوير ميزات تنافسية إقليمية. فلكل محافظة ميزتها النسبية (صناعية وزراعية في الدلتا، زراعية في الصعيد، لوجستية في القناة). يجب أن تكرس السردية جهودها لـ اللامركزية المالية والإدارية، وتمكين المحافظات من استقطاب الاستثمار الخاص بناءً على إمكاناتها الفريدة، بما يضمن تحقيق "العدالة المكانية" في التنمية.

ربط سوق العمل بالصناعات المعقدة (جودة رأس المال البشري)

للتحول نحو التصدير (المحور الثالث)، نحتاج إلى قوة عاملة ماهرة في الصناعات المعقدة (Economic Complexity)، يجب أن تضمن السردية أن الإصلاح في قطاع التعليم الفني والتدريب المهني لا يقتصر على برامج تقليدية، بل يركز على تخصصات المستقبل التي تتطلبها قطاعات الطاقة الخضراء، والرقمنة، والصناعات الهندسية والتكنولوجية الدقيقة. فالاستثمار في رأس المال البشري هو الاستثمار الأكثر ربحية.

التشاركية كآلية للمساءلة

إن خطوة إطلاق حوار مجتمعي حول السردية هي خطوة تحسب لوزارة التخطيط. يجب تحويل هذا الحوار إلى آلية مؤسسية دائمة للمساءلة. بما أن السردية وضعت مستهدفات كمية صريحة لعام 2030 (مثل نسبة النمو، ونسبة مساهمة القطاع الخاص، ومعدلات التصدير)، فيجب أن يتم نشر تقارير متابعة دورية وشفافة توضح مدى التقدم، أو أسباب التعثر في حال حدوثه. هذه الشفافية هي أقوى أداة لبناء الثقة مع الشركاء المحليين والدوليين.

انعكاسات السردية على النمو والتنمية

إذا ما تم تطبيق هذه المحاور بجدية، ستصبح السردية الوطنية بمثابة قاطرة للنمو النوعي، فهي قادرة على:

  • رفع مساهمة الصناعة إلى أكثر من 20% من الناتج المحلي الإجمالي بحلول 2030.
  • رفع نسبة الاستثمارات الخضراء إلى 70% من إجمالي الاستثمارات بحلول العام 2030.
  • جذب ما يزيد عن 10–12 مليار دولار سنويًا من الاستثمارات الأجنبية المباشرة.
  • خلق مئات الآلاف من الوظائف الخضراء في الطاقة المتجددة وإدارة المخلفات.
  • تعزيز مرونة الاقتصاد في مواجهة الصدمات الخارجية من خلال تنويع القاعدة الإنتاجية وزيادة الصادرات غير البترولية.

فرصة تاريخية نحو "نموذج اقتصادي جديد"

تعد السردية الوطنية للتنمية الاقتصادية علامة فارقة في التحول الاستراتيجي للاقتصاد المصري، حيث تجمع بين تعميق الإصلاحات الهيكلية، وتحفيز القطاع الخاص، والدمج الذكي بين الاستراتيجية الوطنية ومتطلبات الواقع المحلي والدولي. ولئن جاءت الوثيقة كاستجابة للأزمات والتحولات العالمية، فإنها تؤسس لخارطة نمو مرنة ومستدامة قادرة على خلق فرص عمل نوعية، وزيادة الصادرات، وتحسين حياة المواطن المصري، متى اقترنت بالحوكمة الفعالة، والتقييم الدوري، والحوار المجتمعي الشفاف، والابتكار المؤسسي.

 وأخيرا أؤكد ان مصر لديها فرصة تاريخية لبناء وتحقيق نموذج اقتصادي جديد قائم على الاستدامة والصمود وهذا ما تخلص إليه السردية الوطنية وهو أن مصر لديها فرصة تاريخية لتحقيق قفزة تنموية مستدامة، استناداً إلى قاعدة البنية التحتية الضخمة التي تم إنجازها.

لكن هذه القفزة لن تتحقق إلا من خلال نموذج اقتصادي جديد عنوانه الأبرز هو "إنتاج وتصدير يقوده القطاع الخاص، في ظل إطار كلي مستقر ومنظم من قبل الدولة".

إن نجاح هذه السردية ليس رهن القرارات الحكومية فحسب، بل هو مسؤولية وطنية مشتركة تتطلب التزاماً غير مشروط من جميع الأطراف: الحكومة بـالوفاء بالتعهدات والدعم المستمر، والقطاع الخاص بـالجرأة في الاستثمار، والمجتمع بـالمشاركة والمساءلة البناءة. فالسردية الوطنية ليست مجرد وثيقة، بل هي تعهد وطني على طريق التحول والتمكين والصمود.

Short Url

search