الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025

03:33 م

حرب النفط تكشف الوجه الحقيقي للصراع السوداني بعد «هجليج»

الثلاثاء، 16 ديسمبر 2025 01:13 م

حرب النفط في السودان

حرب النفط في السودان

مي المرسي

ليست الحرب في السودان مجرد صراعٍ على السلطة أو سباقٍ بين جنرالاتٍ متنازعين، بل معركة عميقة الجذور تُدار بعقلٍ اقتصادي بارد، حيث تتحوّل الموارد إلى أهداف عسكرية، وتغدو المنشآت النفطية أثمن من المُدن، وخطوط الأنابيب أقدس من الأرواح، هنا، لا يُقاس ميزان القوة بعدد البنادق وحدها، بل بعدد البراميل المتدفقة، وبالقدرة على التحكم في شريانٍ ماليٍّ قادر على إطالة أمد الحرب أو خنقها.

في هذا السياق، لم يكن ما جرى في حقل هجليج النفطي حدثًا عسكريًا عابرًا، بل لحظة كاشفة لطبيعة الصراع السوداني، حيث انكشفت «حرب الموارد» في أوضح صورها، وتبدّت المفارقة القاسية حين يُعلَّق القتال لأجل النفط، بينما يستمر بلا هوادة حين يتعلق الأمر بحياة البشر.

 هجليج.. قلب النفط وساحة الاشتباك

في الثامن من ديسمبر، أحكمت قوات الدعم السريع سيطرتها على حقل هجليج، أكبر حقول النفط في السودان، الواقع في ولاية غرب كردفان قرب الحدود مع دولة جنوب السودان، الحقل لا يمثّل مجرد منشأة إنتاج عادية، بل يشكّل القلب النابض لمنظومة نفطية معقّدة تعتمد عليها صادرات جنوب السودان بالكامل تقريبًا، وتُعد مصدرًا حيويًا للإيرادات بالنسبة لحكومة بورتسودان.

السيطرة على هجليج أدّت عمليًا إلى شلل منشأة المعالجة الرئيسية، ما انعكس مباشرة على تدفقات النفط العابرة إلى ميناء بورتسودان عبر خط أنابيب يمتد لأكثر من 1500 كيلومتر، وهو ما وضع طرفي الحرب، إلى جانب دولة جنوب السودان، أمام معادلة شديدة الحساسية، فاستمرار القتال هنا يعني انهيارًا ماليًا يتجاوز حدود السودان ذاته.

 النفط تحت نيران الحرب

لم تكن هجليج بعيدة عن مرمى النيران قبل سقوطها، فقد اتهمت القوات المسلحة السودانية، في أغسطس الماضي، قوات الدعم السريع بتنفيذ هجمات بطائرات مسيّرة على الحقل ذاته، تسببت في تعطيل متكرر للإنتاج، هذه الهجمات لم تكن ذات قيمة عسكرية مباشرة، لكنها كشفت إدراكًا مبكرًا لأهمية النفط بوصفه هدفًا استراتيجيًا، ومع انتقال الصراع من مرحلة الاستهداف إلى مرحلة السيطرة المباشرة، تغيّر توصيف المعركة، إذ أن  الأمر يتعلق بالضغط العسكري فحسب، بل بالسيطرة على مورد قادر على تمويل الحرب، وتأمين الوقود، وشراء السلاح، والحفاظ على الحد الأدنى من وظائف الدولة.

حرب تُدار بالاقتصاد بقدر ما تُدار بالسلاح

تكشف معركة هجليج عن نمط أوسع في الحرب السودانية؛ نمط يُدار فيه الصراع عبر مسارين متوازيين، الأول، السيطرة على المنشآت المدرّة للدخل، وعلى رأسها النفط والذهب، والثاني، تعطيل أو خنق مسارات المساعدات الإنسانية، واستخدام الحرمان أداةً لإخضاع السكان وفرض وقائع ديموغرافية جديدة، وهو ما يعني صياغة ميزان القوة عمدًا عبر التحكم في الموارد وفي تدفقات الإغاثة، بما يسمح باستمرار الحرب رغم المبادرات الدولية المتكررة لفرض وقف إطلاق النار، إنها حرب استنزاف بطيئة، لا تُخاض فقط في ميادين القتال، بل في الأسواق، وسلاسل الإمداد، وقدرة المدنيين على البقاء.

 أرقام تكشف حجم الرهان

تضم منطقة هجليج وحدها ما يقارب 75 حقلًا نفطيًا، أبرزها «مربع 6»، الذي كان ينتج قبل الحرب أكثر من 65 ألف برميل يوميًا، قبل أن يتراجع الإنتاج إلى نحو 20 ألف برميل فقط، ومع تصاعد المعارك، توقّف الإنتاج كليًا عشية إعلان سيطرة قوات الدعم السريع على المنطقة، في المقابل، تمتلك دولة جنوب السودان وحدة لمعالجة النفط في هجليج بسعة تصل إلى 130 ألف برميل يوميًا، وتعتمد على هذا الحقل في تمويل ما يقارب كامل ميزانيتها العامة، كما يحصل السودان، بموجب اتفاقات ما بعد الانفصال، على رسوم عبور تُقدَّر بمئات الملايين من الدولارات سنويًا، ما يجعل أي خلل في هجليج ضربة مزدوجة لاقتصاد الدولتين.


 اتفاق حماية النفط

وسط هذا المشهد الدموي، فجّر الاتفاق الثلاثي بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع ودولة جنوب السودان لتأمين منشآت النفط في هجليج موجةً من الجدل، فبينما فشلت أكثر من عشر مبادرات إقليمية ودولية في إقناع الطرفين بوقف القتال أو فتح ممرات إنسانية، نجحت الوساطة حين تعلّق الأمر بالنفط، الاتفاق، الذي منح قوات جنوب السودان مسؤولية أمنية في المنطقة، لم يكن تعبيرًا عن تهدئة سياسية، بل عن إدراك مشترك بأن إدخال النفط في دائرة الاشتباك الكامل يعني خسارة جماعية لا يحتملها أي طرف.

 النفط أغلى من الدم؟

هذا السؤال بات حاضرًا بقوة في الخطاب السوداني، فمراقبون يرون أن الإرادة التي أفضت إلى حماية النفط، كان يمكن ـ لو توفرت ـ أن تجنّب البلاد مقتل ما يُقدّر بنحو 150 ألف شخص، وتشريد أكثر من 12.4 مليون نازح، لكن المفارقة أن الدم ظل قابلًا للمساومة، بينما النفط ظل خطًا أحمر، ويذهب محللون إلى أن النفط تحوّل من مورد اقتصادي إلى «منطقة منزوعة الحرب» بحسابات المصلحة، بينما تُركت المدن والقرى مفتوحة على القصف، والنزوح، والمجاعة.

 تفكك الدولة وصعود اقتصاد الحرب

ومع دخول الحرب عامها الرابع، تراجع الاهتمام الدولي بالسودان، بينما يتعمّق تفكيك الاقتصاد الوطني من تضخم مفرط، ونهب موارد، وانهيار سلاسل الإمداد، كلها ملامح لاقتصاد استغلالي يربح فيه المستفيدون من الفوضى، وفي هذا السياق، لم يعد النفط مجرد مصدر دخل، بل أداة بقاء سياسي وعسكري، فبالنسبة لحكومة بورتسودان، يمثّل آخر شريان للعملة الصعبة، وبالنسبة لقوات الدعم السريع، ورقة تفاوض تمنحها شرعية إقليمية محتملة، وتخفف من عزلتها الدولية.

وهنا تكشف معركة هجليج أن الحرب في السودان لم تعد تُدار بمنطق النصر والهزيمة، بل بمنطق أدق وأقسى، يتمحور في سؤالٍ واضح كيف تستمر الحرب دون أن تنهار منظومتها الاقتصادية؟ هنا، لا يُسأل عن عدد الضحايا بقدر ما يُسأل عن سلامة خطوط الأنابيب، ولا تُقاس الخسائر بالمدن المدمّرة، بل بالإيرادات المتوقفة.

تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا

إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة لتغطية ومتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.

Short Url

search