الأربعاء، 29 أكتوبر 2025

03:39 م

كيف أنقذ "اللقاح" البشرية؟، قراءة اقتصادية في معركتنا مع الميكروبات

الأربعاء، 29 أكتوبر 2025 08:55 ص

العلم أنقذ الاقتصاد الإنساني عن طريق اللقاح

العلم أنقذ الاقتصاد الإنساني عن طريق اللقاح

منذ فجر التاريخ، خاضت البشرية معركة غير متكافئة ضد عدو خفي هو الميكروب، لقرون طويلة، لم يكن التحدي الرئيس هو كيفية تحقيق النمو الاقتصادي، بل كيف يمكن منع الانقراض الجماعي، حيث كانت الأوبئة المتكررة تمثل الحدث الاقتصادي الأكبر تأثيراً على مسار التطور البشري قبل ظهور العلم الحديث.

 عصور ما قبل العلم، الاقتصاد الموبوء

قبل أن يولد العلم الحديث، كانت الميكروبات هي المتحكم الفعلي في مسار الاقتصاد العالمي، وقد عانت المجتمعات الزراعية من دورات موت جماعي متكررة قضت أحيانًا على نصف السكان، ما ترك الحقول بلا فلاحين، والمدن بلا عمال، وتسبب في تدهور حاد بالإنتاج. كمثال صارخ، أدت جائحة "الموت الأسود" في القرن الرابع عشر، التي قضت على نحو نصف سكان أوروبا، إلى زلزال اقتصادي تمثل في نقص حاد في العمالة، ارتفاع مفاجئ في الأجور، وانكماش مزمن في الإنتاج الزراعي، لتتكرر الدورة ويعاد البشر إلى نقطة الصفر الاقتصادية مع كل وباء.

 من "الميازما" إلى “الميكروب”، العلم ينقذ الإنتاجية

حتى منتصف القرن التاسع عشر، بقيت البشرية تجهل المسبب الحقيقي للأمراض، وكانت نظرية "الميازما" (الهواء الفاسد) هي المهيمنة على الفكر الطبي وتوجيه السياسات العامة، ما أدى إلى استنزاف الموارد دون تحقيق نتائج، وجاءت ثورة العلم بفضل رواد مثل لويس باستور وروبرت كوخ، لتؤسس "نظرية الجراثيم". مثلت هذه النظرية نقطة التحول التاريخية التي فصلت بين اقتصاد البقاء واقتصاد التنمية. إن فهم طبيعة الميكروبات لم يغير الطب فحسب، بل غير بنية رأس المال البشري، حيث أصبح الإنسان قادراً على حماية صحته والاستثمار في حياة أطول وأكثر إنتاجية.

 اللقاحات وتراكم رأس المال البشري

في الاقتصاد الحديث، يعد رأس المال البشري (الصحة والتعليم) المحرك الأهم للنمو. مع ظهور اللقاحات وتطوير العلاجات، دخل العالم مرحلة جديدة من تراكم رأس المال البشري المستدام. الأطفال الذين كانوا يموتون قبل سن الخامسة أصبحوا يعيشون ويتعلمون ويعملون، وهذا التحول الديموغرافي والصحي العميق هو الذي غير شكل الاقتصاد العالمي وأرسى أساس النمو والتنمية المستدامة.

العلم يكتشف اللقاح

اللقاح، أعظم عائد على الاستثمار في تاريخ البشرية

من منظور اقتصادي، اللقاحات ليست فقط أداة طبية، بل استثمار عام بعائد فائق، وتقدر دراسة للبنك الدولي أن كل دولار يُستثمر في برامج التطعيم يُدر ما بين 16 إلى 44 دولارًا من العائد الاقتصادي طويل الأجل، بفضل خفض تكاليف العلاج وزيادة الإنتاجية وتحسين التعليم.

ولعل تجربة القضاء على الجدري تمثل المثال الأوضح: قتل الجدري ما لا يقل عن 500 مليون إنسان خلال قرن واحد، وبعد القضاء عليه في عام 1980، تُقدر منظمة الصحة العالمية أن العالم يوفر نحو 1.3 مليار دولار سنويًا كانت تنفق على برامج المكافحة والعلاج، ومع ذلك، كانت تكلفة استئصاله الإجمالية نحو 300 مليون دولار فقط، أي أن العائد كان أضعاف التكلفة مئات المرات.

اقرأ أيضًا:

المستشفى الذكي، ثورة حتمية لمواجهة تحديات الرعاية الصحية في العصر الرقمي

الاقتصاد الجماعي للصحة العامة، عندما تصبح مصلحتك مرتبطة بغيرك

اللقاحات ليست سلعة فردية، بل سلعة عامة “public good”، فمن دون المناعة المجتمعية، ينهار النظام الصحي كليًا، وهذا ما يجعل الاستثمار العام ضرورة اقتصادية لا رفاهية سياسية.

الدول التي تبنت سياسات صحية شاملة من تحسين الصرف الصحي إلى التلقيح الجماعي هي ذاتها التي شهدت أعلى معدلات النمو الاقتصادي في القرن العشرين. التجربة الأوروبية، ثم الآسيوية (خاصة في كوريا الجنوبية وسنغافورة)، تظهر بوضوح أن اللقاح هو أحد أعمدة التنمية الاقتصادية الحديثة.

وباء كوفيد-19

من الجدري إلى كوفيد، الدرس الاقتصادي المستمر

عندما ضرب وباء كوفيد-19 العالم عام 2020، عادت الذاكرة البشرية إلى تلك العصور المظلمة حين كانت الأوبئة تسقط الإمبراطوريات، وتوقفت سلاسل الإنتاج، وانهارت أسواق العمل، وخسر الاقتصاد العالمي أكثر من 10 تريليونات دولار خلال عامين.

لكن المفارقة أن الحل كان نفسه الذي أنقذ البشرية قبل قرنين: العلم واللقاح، لم يكن إنجازًا طبّيًا فحسب أن تطور لقاحات كوفيد خلال أقل من عام، بل كان إنجازًا اقتصاديًا هائلًا، فاللقاح أوقف النزيف المالي العالمي وفتح الطريق أمام التعافي.

اقرأ أيضًا:

المستشفى الذكي، من محاكاة «تسينغهوا» إلى ثورة عالمية في الرعاية الصحية

اللقاح كرأسمال معرفي

في المجتمعات الحديثة، لا يقاس التقدم فقط بكمية المصانع أو الناتج المحلي الإجمالي، بل بقدرة المجتمع على إنتاج المعرفة وتوظيفها، كما أن اللقاح هو نتاج مباشر لاقتصاد المعرفة تلاقي بين الأبحاث، والتمويل، والتكنولوجيا الحيوية، والتعاون الدولي. ولهذا، فإن الاستثمار في البحث العلمي هو أكثر أدوات السياسة الاقتصادية فعالية طويلة المدى، لأنه لا يقي فقط من المرض، بل يخلق أسواقًا جديدة ومجالات عمل مبتكرة.

التقدم العلمي في الصحة

من الخوف إلى الازدهار

قصة اللقاحات ليست مجرد انتصار علمي، بل تحول اقتصادي جذري: من اقتصاد تستهلكه الأوبئة، إلى اقتصاد يبني الإنسان ويستثمر في عمره وصحته،  ولقد خسرنا معركتنا مع الميكروبات لآلاف السنين، لكننا كسبنا الحرب عندما آمنا بالعلم، واليوم، في ظل تحديات الأمراض المستجدة، يبدو أن السؤال لم يعد هل نستطيع الانتصار؟ بل هل سنواصل الاستثمار في العلم الذي منحنا الحياة والازدهار؟

تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا

إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.

Short Url

search