إعادة التفكير في المستقبل، كيف تُعيد الطاقة النووية تشكيل سوق العمل العالمي
الأحد، 13 يوليو 2025 03:24 م

الطاقة النووية
يشهد سوق الطاقة العالمي تحوّلات سريعة، ومعه يتغير شكل سوق العمل بشكل ملحوظ، فبينما تسعى الدول جاهدة لتحقيق أهدافها المناخية الطموحة وتقليل الانبعاثات الكربونية، تتزايد القناعة بأن الطاقة النووية تمثل جزءًا محوريًا من الحل، ففي مؤتمر المناخ COP28 تعهدت أكثر من 20 دولة بمضاعفة القدرة النووية ثلاث مرات بحلول عام 2050، في إشارة واضحة إلى التزام عالمي متجدد بجعل الطاقة النووية مصدرًا نظيفًا، ومستقرًا، وقابلًا للتوسع.
لكن مستقبل الطاقة النووية لا يتوقف عند بناء محطات جديدة أو تطوير مفاعلات متقدمة. بل يتعلق الأمر بالأشخاص، وبكيفية إعدادهم، وتحفيزهم، وبالاعتماد عليهم ليكونوا القوة الدافعة لهذا التحول الجذري.
فعلى مدار العقود الماضية شهد قطاع الطاقة النووية تطورًا تكنولوجيًا مذهلًا. واليوم يقف هذا القطاع عند مفترق طرق بين الابتكار والحاجة الملحة. بدءًا من محطات الطاقة التقليدية ذات القدرات الضخمة، وصولًا إلى المفاعلات المعيارية الصغيرة (SMRs) والمفاعلات العائمة، بات القطاع أكثر تنوعًا وطموحًا، وأكثر اندماجًا في الأطر العامة للاستدامة. وهذا التحول لا يغير فقط طريقة إنتاج الطاقة النووية، بل يغير أيضًا هوية من نحتاج إليهم لإنجاح هذه المهمة.
لطالما ارتبطت الوظائف في القطاع النووي بالمهندسين والمعامل والمشغلين.
ورغم أن هذه الأدوار ما زالت ضرورية، فإنها لم تعد سوى جزء من منظومة أوسع بكثير، متعددة التخصصات. فمع اتساع نطاق الطاقة النووية، تتسع الحاجة إلى كوادر متنوعة: من المحامين المتخصصين في الأطر التنظيمية الدولية، إلى علماء البيئة الذين يقيّمون الأثر البيئي ويضمنون التوافق مع الأهداف المناخية. ومن مطوري الأعمال والاقتصاديين الذين يصيغون النماذج التمويلية للمشروعات المعقدة، إلى خبراء تكنولوجيا المعلومات والأمن السيبراني الذين يحمون الأنظمة الرقمية من التهديدات المتطورة. ولا يقل أهمية عن ذلك المتخصصون في العلاقات العامة، الذين يلعبون دورًا حاسمًا في بناء الثقة المجتمعية وقبول المشروعات النووية، وهي عوامل أساسية لضمان نجاح أي مشروع نووي.
وتُعد محطة الضبعة للطاقة النووية، التي يجري إنشاؤها حاليًا على الساحل الشمالي لمصر، مثالًا حيًا على هذا التحول. يتم تنفيذ المشروع بالتعاون بين شركة روساتوم الحكومية الروسية وهيئة المحطات النووية المصرية، وهو أول مشروع نووي في تاريخ مصر لتوليد الكهرباء. لكنه ليس مجرد موقع بناء، بل أصبح منصة تدريب، وحاضنة خبرات، ومصدرًا لفرص العمل. فقد تم بالفعل إشراك آلاف الكوادر المصرية في تخصصات متعددة، لا تقتصر على الهندسة، بل تمتد إلى إدارة المشروعات، والموارد البشرية، والاتصال، والمشتريات، والخدمات اللوجستية، وغيرها. لقد تحول المشروع إلى نواة تتشكل حولها مهارات جديدة، وتتطور فيها القدرات الوطنية.
تدرك شركة روساتوم بفضل خبرتها العالمية وبرامجها التعليمية الواسعة، أن مستقبل الطاقة النووية يبدأ من التعليم. فهي تدعم في الدول الشريكة برامج تدريب الطلاب، والمنح الدراسية، والتبادل الفني. وفي مصر أفرز ذلك جيلًا جديدًا من الشباب المؤهلين ليس فقط للعمل في مشروع الضبعة، بل لقيادة مشروعات أخرى داخل البلاد وخارجها. ويُعد هذا النموذج من التدريب العملي المتوافق مع احتياجات الصناعة أحد المفاتيح الأساسية لسد الفجوة بين التعليم النظري وسوق العمل.
ومن الضروري كذلك تشجيع الطلاب على التوجه نحو التخصصات المرتبطة بالطاقة النووية في مراحل مبكرة، ليس فقط داخل الجامعات التقنية، بل حتى في المدارس الثانوية، بل وفي مجالات غير تقنية أيضًا، لنشر الوعي بتنوع الفرص المتاحة في هذا القطاع. فهناك دور للمصممين في التصوير الرقمي، ولخبراء اللغات في التنسيق الدولي، ولعلماء الاجتماع في التواصل المجتمعي، ولمحللي السياسات في الربط بين خطط الحكومات والتطبيقات الفنية. هذا التنوع لم يعد فقط مطلوبًا، بل أصبح ضرورة.
ومن بين المجالات التي تتطلب تخصصًا عاجلًا: الامن والسلامة. ففي عالمنا اليوم لم تعد هذه المفاهيم ثابتة، بل تتطور باستمرار. من حماية المواقع النووية ماديًا، إلى المراقبة السيبرانية في الزمن الحقيقي، والتأهب للطوارئ، تحتاج الصناعة النووية إلى أن تبقى متقدمة بخطوات على التهديدات المحتملة. ولهذا فمد القطاع بمواهب جديدة ورؤى متجددة يُعد استثمارًا حتميًا للحفاظ على ثقة الجمهور وكفاءة التشغيل.
ومع سعي الدول لتنويع مصادر الطاقة وتقليل الاعتماد على الوقود الأحفوري، يأتي دور الطاقة النووية كركيزة مستقرة لشبكات الكهرباء الوطنية. فهي تشجع على جذب الاستثمارات، وتُسهم في توطين التكنولوجيا، وتسريع النمو الاقتصادي. لكن هذا التحول لا يمكن أن يتحقق بالتكنولوجيا وحدها. بل يتطلب فرق عمل مرنة، ومتعددة المهارات، قادرة على مواكبة التغيرات، واقتناص الفرص الناشئة. وهذه المرونة لا تتحقق إلا من خلال كوادر مدرّبة عبر مختلف التخصصات، وتشجع على الابتكار.
إن قطاع الطاقة النووية الناجح في القرن الحادي والعشرين لن يُبنى على أكتاف المهندسين وحدهم، بل سيتشكل بعقول جماعية، تجمع بين الدقة التقنية والذكاء العاطفي، بين الوعي السياسي والحس الثقافي. ويجب أن تعكس الكوادر العاملة فيه التعقيد المتزايد لهذا القطاع، حيث تلتقي الطاقة النظيفة بالحوار المجتمعي، والتخطيط الوطني، والتعاون الدولي.
وإذا أردنا تحقيق الوعد الكامل للطاقة النووية - مدن أكثر أمانًا، وهواء أنقى، ووظائف مستقرة، ومجتمعات مزدهرة - فعلينا أن نعيد تعريف معنى العمل في هذا المجال. لقد أصبحت مشروعات مثل الضبعة معيارًا يُحتذى به، حيث تُظهر أن القطاع النووي لا يتميز فقط بالثراء التكنولوجي، بل يتمركز حول تنمية الإنسان. وبدعم من شركاء متمرسين مثل شركة روساتوم، التي تحتفل هذا العام بمرور 80 عامًا من الريادة في قطاع الصناعة النووية الروسية، ومع الرؤية الاستراتيجية لدول مثل مصر، نستطيع بناء قوة عمل تتماشى مع طموحات هذا القطاع؛ قوة جاهزة للمستقبل، متنوعة، وتحركها رسالة سامية.
فما نشهده اليوم ليس مجرد انتقال في مصادر الطاقة، بل ثورة في المواهب. ثورة تحتفي بإنجازات ثمانية عقود، وتنظر بثقة نحو المستقبل. وفي قلبها تكمن حقيقة لا جدال فيها: حين نستثمر في الإنسان، فإننا نُشعل طاقة الغد.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ“أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية”، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
الدكتور محمد فؤاد يكتب: في ذكرى «أبو دقشوم والدفاس»
11 يوليو 2025 10:40 ص
مجمع إنتاج الكوارتز بالعين السخنة.. صرح صناعي عالمي بصحراء مصر الشرقية
08 يوليو 2025 12:06 م
الدكتور محمد فؤاد يكتب.. وحدة الموازنة والبحث عن صندوق خارج الصندوق
29 يونيو 2025 06:22 ص
أكثر الكلمات انتشاراً