صناعة الذهب من المخلفات، ابتكار جديد لاستخلاص المعدن الأصفر من النفايات الإلكترونية

في وقت أصبحت فيه النفايات الإلكترونية أسرع أنواع المخلفات نموًا حول العالم، ومع تصاعد القلق من آثارها البيئية والصحية، تمكن باحثون سويسريون من تطوير تقنية ثورية لاستخلاص الذهب من الأجهزة الإلكترونية التالفة، باستخدام بقايا الجبن.

ورغم أن الذهب عنصر لا يُرى بسهولة في حياتنا اليومية، إلا أنه يشكل جوهر كل جهاز إلكتروني نستخدمه، من الهواتف إلى الحواسيب، لكنه غالبًا ما ينتهي به المطاف في مكبات النفايات، مُسببًا تلوثًا بيئيًا خطيرًا.

الذهب الخفي في قلب التكنولوجيا

ويتمتع الذهب بخواص استثنائية تجعله مثاليًا في الصناعات الإلكترونية، فهو ناقل ممتاز للكهرباء ومقاوم للتآكل، لكن استخراجه من الطبيعة يترك بصمة بيئية كارثية، تتضمن إزالة الجبال وتجفيف الأنهار وإطلاق كميات كبيرة من ثاني أكسيد الكربون.

ووفقًا لتقديرات الأمم المتحدة، أنه مع ازدياد الطلب العالمي على الإلكترونيات، يتزايد معه حجم النفايات الإلكترونية، التي بلغت نحو 63 مليون طن في عام 2024. إلا أن نسبة ضئيلة فقط من هذه الكمية يُعاد تدويرها بشكل آمن.

أزمة النفايات الإلكترونية والذهب الضائع

تدفن معظم الأجهزة القديمة في مكبات النفايات أو تفكك في ورش غير نظامية، حيث تتسرب المعادن الثقيلة إلى المياه الجوفية، مشكلة مزيجًا سامًا يهدد البيئة والصحة العامة.

ويكمن الحل الأمثل في استخلاص المعادن الثمينة مبكرًا، قبل أن تصل هذه الأجهزة إلى نقطة اللاعودة إلى مكعبات القمامة.

الجبن يلهم العلماء.. إسفنجة تلتقط الذهب

في تجربة مبتكرة، استلهم فريق بحثي من المعهد الفيدرالي السويسري للتكنولوجيا في زيورخ، بقيادة البروفيسور رافاييل ميزينجا والعالم محمد بيدايش، طريقة جديدة من صناعة الجبن لفصل الذهب عن النفايات الإلكترونية، وفقًا لدراسة نُشرتها مجلة Advanced Materials.

واعتمد الفريق على مصل اللبن، وهو منتج ثانوي لصناعة الجبن، يحتوي على بروتينات تتجمع لتشكل أليافًا دقيقة في الظروف الحمضية. 

واستطاع الباحثون تحويل هذه الألياف إلى هلام هوائي خفيف يشبه البوليسترين، قادر على امتصاص الذهب من المحاليل الكيميائية.

أظهرت التجارب الأولية أن هذا الهلام الهوائي قادر على جمع الذهب بكفاءة عالية بشكل أكبر من راتنجات البلاستيك التي يستخدمها عادةً العاملون في إعادة التدوير، والأفضل أن هذه التقنية لا تستخدم مذيبات ضارة.

وقام فريق الباحثين، في اختبار مباشر بالمعمل، بتفكيك أجزاء معدنية من 20 لوحة أمّ للكمبيوتر، وقاموا بإذابتها في حمض، ثم وضع قطعة صغيرة من الهلام الهوائي بحجم ظفر الإصبع داخل المحلول، وتفاعل النحاس والنيكل والكوبالت مع السائل، بينما استقرت أيونات الذهب على الإسفنجة بكفاءة أعلى. 

وأصبح المحلول شفافًا، بعد أن تم نقعه في وقت قصير، مما يشير إلى أن معظم المعدن الثمين قد تم استخلاصه من السائل.

فعالية مبهرة.. وبدون مواد سامة

أظهرت التجارب أن قطعة صغيرة من هذا الهلام، بحجم ظفر الإصبع، قادرة على استخلاص الذهب من لوحات إلكترونية مذابة بكفاءة تفوق 90%، أي ما يعادل ذهبًا من عيار 22 قيراطًا، وكل ذلك دون استخدام أي مذيبات سامة.

وتتفوق هذه التقنية على الطرق التقليدية التي تتطلب مواد كيميائية خطيرة، مما يجعلها أكثر أمانًا وأقل تكلفة وصديقة للبيئة.

من الذهب المذاب إلى المعدن الصلب

بعد التقاط أيونات الذهب، يقوم الفريق بتسخين الإسفنجة لفصل الذهب عن البروتين، لتتحول الأيونات إلى كتلة صلبة ورقائق لامعة، استمر التسخين حتى تشكّلت كتلة صلبة بوزن يقارب 450 مليجرامًا، وأظهرت التحاليل أن هذه الكتلة تتكون من 91% ذهب و9% نحاس.

كما أن حرق الهلام تحت حرارة محكمة لا يترك بقايا صناعية، مما يُبسط عمليات التنظيف ويُقلل النفايات.

فرصة اقتصادية.. ومصانع محلية مستقبلية

وبجانب الاستدامة البيئية، تحقق التقنية الجديدة مكاسب اقتصادية كبيرة، إذ أن تكلفة الإنتاج تقل بنحو 50 مرة عن القيمة السوقية للذهب المُستخرج.

وهو ما يعني أن إمكانية إنشاء محطات إعادة تدوير محلية بجوار مصانع الألبان، دون الحاجة إلى شحن المخلفات الإلكترونية إلى الخارج، مما يقلل انبعاثات النقل ويحافظ على الإيرادات المحلية.

آفاق أوسع لإعادة التدوير

يمكن تطبيق هذه التقنية أيضًا على مياه الشطف الصناعية من مصانع الرقائق أو ورش الطلاء بالذهب، ما يجعل الإسفنجة البروتينية أداة متعددة الاستخدامات، وهو ما يُقلل التكاليف ويُقلل من جريان المياه.

حلّان في تقنية واحدة

وقال البروفيسور ميزينجا، أن أكثر ما يعجبه هو أنهم يستخدموا نفاية من صناعة الغذاء لاستخراج الذهب من نفايات إلكترونية، مضيفًا أنه لا يمكن أن يتم الحصول على طريقة أكثر استدامة من ذلك.

ومع توسيع نطاق المشروع، ونجاح هذه المشاريع التجريبية، قد تُصبح هذه الإسفنجات الذكية مستقبل إعادة التدوير، وتحول ما كان يعتبر قمامة إلى ذهب فعليًا، وتفتح الطريق أمام عصر جديد من التكنولوجيا الخضراء.