بين هجرة المواهب واحتكار التكنولوجيا، الاقتصاد يعيش تحت رحمة المدن العالمية
الأربعاء، 24 ديسمبر 2025 03:00 م
الاقتصاد الدولي
في لحظة تاريخية يتكثف فيها الاضطراب السياسي والاقتصادي عالميًا، تبدو المدن الكبرى، وكأنها جزر مستقرة نسبيًا وسط محيط متلاطم، فبينما تتآكل أسس العولمة التقليدية، وتتراجع الثقة في النظام الاقتصادي الدولي، ما زالت مدن مثل نيويورك، ولندن، وباريس، وطوكيو، وسنغافورة، تحافظ على موقعها في قمة الهرم الحضري العالمي.
هذا الثبات الظاهري لا يعكس غياب التحديات، بل يكشف عن قدرة استثنائية على تكيف الدول مع عالم يعاد تشكيله بالقوة والسياسة قبل الاقتصاد، ووسط اضطرابات تعصف بالاقتصاد العالمي.

من عولمة مفتوحة إلى عولمة مجزأة
خلال العقود الثلاثة الماضية، استفادت المدن العالمية من نموذج عولمة يقوم على انسياب التجارة، وحرية حركة رؤوس الأموال، وتدفق الكفاءات البشرية عبر الحدود.
غير أن هذا النموذج بات اليوم محل مراجعة جذرية، فالحروب التجارية، والعقوبات الاقتصادية، والصراعات الجيوسياسية، أعادت تعريف الاقتصاد العالمي بوصفه ساحة صراع، لا مجرد شبكة مصالح متبادلة.
ونتيجة لذلك، لم تختفِ العولمة، لكنها تتحول إلى ما يمكن وصفه بـ«العولمة المجزأة»، حيث تنكمش الشبكات العالمية لصالح تكتلات إقليمية ومحاور نفوذ متنافسة.
في هذا السياق، تواجه المدن العالمية اختبارًا مزدوجًا، كيف تحافظ على انفتاحها الاقتصادي في عالم يميل إلى الانغلاق؟ وكيف تظل جاذبة للاستثمار والموهبة في ظل قيود متزايدة على الهجرة وحركة رأس المال؟
لماذا تصمد المدن الكبرى؟
السبب الرئيسي وراء صمود المدن العالمية، لا يكمن في حجمها فقط، بل في تنوعها الوظيفي، فهذه المدن ليست مجرد مراكز مالية، بل منظومات متكاملة تضم المال، والتكنولوجيا، والثقافة، والإعلام، والتعليم، هذا التنوع يمنحها مرونة عالية في امتصاص الصدمات، فعندما يتراجع قطاع، يجد الاقتصاد الحضري بدائل أخرى تدعم النمو.
نيويورك، على سبيل المثال، لم تعد تعتمد فقط على وول ستريت، بل تحولت إلى مركز رئيسي للتكنولوجيا والإعلام والصناعات الإبداعية، ولندن، رغم صدمة “بريكست”، أعادت تموضعها كعاصمة للتمويل الدولي والخدمات القانونية العابرة للحدود.
أما سنغافورة، فتمثل نموذجًا لمدينة أو دولة نجحت في توظيف الجغرافيا السياسية لصالحها، عبر تقديم نفسها كحلقة وصل محايدة بين الشرق والغرب.

الاقتصاد كسلاح.. والمدينة كخط دفاع
أحد التحولات اللافتة في المرحلة الراهنة، هو الاستخدام المتزايد للأدوات الاقتصادية كسلاح سياسي، سواء عن طريق العقوبات، أو القيود التكنولوجية، أو التحكم في سلاسل الإمداد.
وفي هذا المشهد، تتحول المدن العالمية إلى خطوط دفاع أولى عن مصالح الدول، فهي نقاط ارتكاز للاستثمارات الاستراتيجية، ومراكز لاتخاذ القرار المالي، ومحطات رئيسية في سلاسل القيمة العالمية.
لكن هذا الدور يفرض ثمنًا، فالتوترات الجيوسياسية تزيد من مخاطر الاستثمار، وتفرض على المدن تكاليف أعلى في ما يتعلق بالأمن السيبراني، واستقرار الأسواق، وحماية البنية التحتية الرقمية، كما أن اعتماد هذه المدن على الاقتصاد العالمي، يجعلها أكثر حساسية للصدمات الخارجية، حتى لو امتلكت أدوات امتصاصها.
الهجرة والموهبة.. معركة المستقبل
لطالما كانت الهجرة عنصرًا حاسمًا في تفوق المدن الكبرى، فالتدفق المستمر للمهارات والعقول كان الوقود الحقيقي للابتكار والنمو، غير أن السياسات الشعبوية وتصاعد النزعات القومية، يهددان هذا النموذج.
القيود على الهجرة، حتى في الدول المتقدمة، تضع المدن في مواجهة مع حكوماتها أحيانًا، لأن مصالح المدن الاقتصادية لا تتطابق دائمًا مع الحسابات السياسية الوطنية.
المدن التي تنجح في المرحلة المقبلة ستكون تلك القادرة على إيجاد توازن جديد، وهو جذب الكفاءات دون إثارة توترات اجتماعية، مع مراعاة توفير فرص اقتصادية دون تعميق فجوة اللامساواة، فالتحدي لم يعد اقتصاديًا فقط، بل اجتماعيًا وسياسيًا في آن واحد.

التكنولوجيا.. سلاح ذو حدين
التكنولوجيا تمثل في الوقت نفسه فرصة وتهديدًا للمدن العالمية، فمن ناحية، تتيح الرقمنة والذكاء الاصطناعي تعزيز الإنتاجية وجذب الاستثمارات، ومن ناحية أخرى، تعمق الفجوة بين المدن القادرة على الاستثمار في التكنولوجيا وتلك التي تتخلف عن الركب.
كما أن التحول الرقمي يغيّر طبيعة العمل نفسه، ما يطرح أسئلة صعبة حول مستقبل الوظائف الحضرية، وسوق العقارات، وأنماط الحياة في المدن الكبرى.
المدن التي تستثمر مبكرًا في البنية الرقمية، والتعليم التقني، والحوكمة الذكية، ستكون الأقدر على الحفاظ على موقعها، أما تلك التي تكتفي بدورها التقليدي، فقد تجد نفسها خارج السباق خلال عقد واحد فقط.
المناخ.. التحدي الصامت
ورغم كل ما سبق، يبقى التغير المناخي التحدي الأكثر عمقًا والأطول أمدًا، فالمدن العالمية، بحكم كثافتها السكانية والاقتصادية، هي الأكثر عرضة لمخاطر المناخ، من ارتفاع منسوب البحار إلى موجات الحر والفيضانات، وفي الوقت نفسه، هي المسؤولة عن جزء كبير من الانبعاثات.
الاستثمار في الاستدامة لم يعد ترفًا أخلاقيًا، بل ضرورة اقتصادية، والمدن التي تفشل في التكيف مع الواقع المناخي ستدفع ثمنًا باهظًا، سواء في صورة تراجع الاستثمارات أو نزوح السكان أو ارتفاع تكاليف التأمين والبنية التحتية.
ماذا يعني ذلك للاقتصاد العالمي؟
استمرار هيمنة المدن الكبرى لا يعني أن النظام الاقتصادي العالمي بخير، بل قد يكون مؤشرًا على العكس، فتركيز القوة الاقتصادية في عدد محدود من المدن يعكس هشاشة الأطراف، ويزيد من عدم التوازن بين المركز والهامش، سواء داخل الدول أو بينها، وهذا التفاوت قد يغذي مزيدًا من التوترات السياسية والاجتماعية، ما يعيد إنتاج دورة الاضطراب من جديد.
لكن في المقابل، تملك المدن العالمية فرصة تاريخية لإعادة تعريف دورها، ليس فقط كمحركات للنمو، بل كمساحات لتجريب نماذج جديدة من التنمية المستدامة، والحوكمة المرنة، والتعايش الاجتماعي.

خلاصة
في عالم يتجه نحو التفكك وإعادة الاصطفاف، تظل المدن العالمية نقاط الضوء القليلة القادرة على العمل عبر الحدود، رغم كل القيود، وصمودها ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة خيارات اقتصادية وسياسية معقدة.
والسنوات المقبلة ستحدد، ما إذا كانت هذه المدن ستبقى محركات للاستقرار العالمي، أم تتحول إلى قلاع معزولة في عالم أكثر انقسامًا.
اقرأ أيضًا:
كيف تواجه القارة العجوز عاصفة ترامب وجمود الاقتصاد في 2025؟
من الهبوط الحاد إلى النمو الهادئ، النمو العالمي يستقر عند 3% حتى 2026
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا
إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.
Short Url
%32 في الشرق الأوسط يعتمدون على ChatGPT، كيف يحمي الذكاء الاصطناعي وظيفتك؟
20 ديسمبر 2025 02:26 م
%56.5 من حركة الإنترنت روبوتات غير بشرية، و5.6% من رسائل البريد الإلكتروني تحمل هجمات خبيثة
18 ديسمبر 2025 12:30 م
مصر تبدأ توطين صناعة مكونات طاقة الرياح لخفض الفاتورة الاستيرادية بـ 235 مليون دولار
17 ديسمبر 2025 03:30 م
أكثر الكلمات انتشاراً