الإثنين، 08 ديسمبر 2025

05:33 ص

عندما تتحكم الشركات في توقيت التطور.. حكاية التكنولوجيا التي تصلنا ناقصة عمدًا

الأحد، 07 ديسمبر 2025 01:02 م

بقلم بهجت العبيدي

بقلم بهجت العبيدي

بقلم بهجت العبيدي

لطالما ظنّ الناس أن التكنولوجيا تركض بخطوات العلم، وأن المختبر هو الذي يحدّد شكل المستقبل. لكن الواقع أقل براءة وأكثر دهاء. العلم يشبه عدّاء متحمسا ينطلق بأقصى سرعته، بينما السوق يقف على خطّ النهاية ممسكا بالصافرة، يقرر وحده متى يُسمح لهذا العداء بالظهور أمام الجمهور. وهكذا يصبح الابتكار جاهزًا قبل أن نراه بسنوات، لكن وصوله إلينا يتطلب إذنًا تجاريًا لا علميًا.

انظر مثلا إلى الهواتف الذكية. ظاهريا يبدو أننا نعيش في عصر التطور المتسارع: كل عام هاتف جديد، وكل مؤتمر يَعِد بقفزة “ثورية”. لكن تحت هذا اللمعان تختبئ لعبة مُحكمة. الشركات لا تريد لجهازك أن يعيش طويلا، ليس لأن التكنولوجيا عاجزة، بل لأن دورة الربح لا تسمح. فجأة تجد البطارية تترنح، والتحديثات تختفي، والأداء يهبط كما لو كان الهاتف يُعاقَب على بلوغه سنّ الرشد. ولم يعد الأمر سرا؛ فلقد اعترفت شركات صراحة بإنقاص أداء الأجهزة القديمة. ومع كل هاتف يُدفن، تنمو جبال النفايات الإلكترونية، وينكمش عمر الكوكب لصالح زمن الأرباح.
عند هذه اللحظة يهبّ الاتحاد الأوروبي كمن يقول: كفى. قوانين جديدة تُلزم الشركات بخمس سنوات من التحديثات، وبطاريات تتحمل مئات الدورات، وملصقات تُظهر بوضوح مدى سهولة الإصلاح. لم تعد المسألة “ذوق استهلاكي”، بل معركة بيئية واقتصادية تتداخل فيها السياسة مع التكنولوجيا بشكل مباشر.

وتتحرك القصة إلى السيارات ذاتية القيادة. العلم هنا سبق الزمن بمراحل: أنظمة قادرة على تحليل الطريق أسرع منا، وخوارزميات تتخذ قرارات أدقّ من ردود فعلنا بمراحل. لكن رغم هذا، لا تزال تلك السيارات أشبه بطائر يعرف الطيران لكنه حبيس القفص. المشكلة ليست في البرمجة، بل في العالم نفسه؛ الطرق غير جاهزة، القوانين لا تعرف كيف تحاسب مركبة بلا سائق، والرأي العام لم يُسلّم بعد بفكرة أن “القيادة” قد تصبح مجرد خيار. لذلك تُطلق الشركات التقنية بجرعات محسوبة: أولا تثبيت سرعة، ثم قيادة شبه ذاتية، ثم انتظار اللحظة التي يصبح فيها المجتمع قادرا على التخلي عن المقود دون خوف أو غضب.
ثم نصل إلى الطب، المجال الذي تتنافس فيه العبقرية العلمية مع أشدّ الأنظمة البيروقراطية تعقيدا. تقنيات مذهلة في التشخيص، روبوتات جراحية بمهارة مدهشة، وأدوات ذكاء اصطناعي قادرة على تغيير شكل الطب من أساسه. ومع ذلك، تبقى الكثير من هذه الابتكارات في الظل سنوات طويلة. الحجة دائما “السلامة”، وهي حجة مشروعة. لكن خلفها يقف منطق آخر: دواء قديم يحقق أرباحا طائلة، أو رغبة في حماية براءة اختراع قبل السماح للعالم برؤية العلاج الجديد. ليس العلم من يبطئ الخطى، بل السوق الذي يخشى أن يطلق ابتكارًا يبتلع أرباح ابتكار آخر.

ومحور آخر أصبح جزءا من هذا المشهد: الذكاء الاصطناعي والوظائف. لسنوات سمعنا الوعيد بأن الروبوت سيطرد البشر من مكاتبهم. لكن المفارقة أن التكنولوجيا القادرة على أداء أجزاء ضخمة من العمل موجودة بالفعل، ومع ذلك لم يحدث “الطوفان”. ليس لأن الذكاء الاصطناعي عاجز، بل لأن الشركات نفسها لا تستعجل الإحلال الكامل. إلغاء وظائف بالجملة يعني صداما مع قوانين العمل، وردود فعل اجتماعية عنيفة، وصورة عامة قد تنهار في يوم واحد. ثم إن الذكاء الاصطناعي، مهما برع، يحتاج إشرافا بشريا، ومسؤولية قانونية، وسلاسل رقابية لا يمكن تعليقها على كتف خوارزمية. لذلك تقدمه الشركات بالطريقة نفسها التي تُقدَّم بها السيارات ذاتية القيادة: خطوة صغيرة، مهمة تكميلية، استخدام مُقنّن لا يهزّ الأسواق ولا يخلق اضطرابا سياسيا.


هكذا تتكرر الحقيقة بأشكال متعددة: الابتكار جاهز ليكون ثورة، لكن الشركات تختاره ليكون تطورا هادئا. خطوة واحدة بدل عشر، وظيفة مساعدة بدل بديل كامل، تحديث محسوب بدل قفزة كاملة. التكنولوجيا ليست ناقصة لأن العلم ناقص، بل لأن السوق لا يريدها كاملة دفعة واحدة.
وفي نهاية هذا المشهد الطويل، تتضح صورة مُرّة: الشركات أصبحت بوابة المستقبل، وهي التي تتحكم في سرعة مرور العلم إلى حياتنا. الابتكار يُولد كاملا، لكنه يصل إلينا مجزأً، مقيدا، ومضبوطا على إيقاع لا يزعج ميزانيات الشركات ولا يهز استقرار الأسواق.
 

ويبقى على الحكومات والهيئات التنظيمية أن تستعيد دورها، حتى لا يصبح المستقبل رهينة في يد مؤسسة تجارية. فالتكنولوجيا يجب أن تخدم الإنسان والبيئة والعمل والعدالة الاجتماعية… لا أن تخدم نموذجا ربحيا يخشى التغيير أكثر مما يخشى الركود. المستقبل موجود، يطرق الأبواب، لكنه لا يزال ينتظر من يفتحها بالكامل.

تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (نبض) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (تيليجرام) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر قناة (يوتيوب) اضغط هــــــــنا.
تابع موقع إيجي إن، عبر تطبيق (واتساب) اضغط هــــــــنا.

إيجي إن-Egyin، هو موقع متخصص في الصناعة والاقتصاد، ويهتم بتقديم خدمة صحفية متميزة للقارئ، وهدفنا أن نصل لقرائنا الأعزاء بالخبر الأدق والأسرع والحصري، إضافة للتغطية والمتابعة على مدار الـ24 ساعة، لـ"أسعار الذهب، أسعار العملات، أسعار السيارات، أسعار المواد البترولية"، في مصر والوطن العربي وحول العالم.

Short Url

search