دكتور خالد وصيف يكتب.. نزيه وفصيح وترند

انتهى المسؤول الرفيع من كلمته التى ألقاها أمام الحضور وشرح فيها خطة العمل التى تنفذها وزارته خلال المرحلة الحالية، الشرح كان مزودا بملف إلكترونى يعرض على شاشة كبيرة رسوما بيانية وأرقام مقارنة لمزيد من التوضيح، كان دقيقا كعادته واستخدم مهاراته التى اكتسبها من التدريس الجامعى فى توضيح أفكاره، انتهى المسؤول الرفيع من كلمته التى أنهاها باستعداده للإجابة على أية أسئلة أو استفسارات تتعلق بالموضوع، استمع للأسئلة وأخذ يدون فى ورقة صغيرة أمامه أهم النقاط، ثم انطلق يجيب عنها دفعة واحدة، الأسئلة كانت أغلبها موجهة من السادة الصحفيين حضور المؤتمر، مجموعة كبيرة من مندوبى الصحف اليومية والأسبوعية وعدد كبير من المواقع الإلكترونية.

انتهى المؤتمر وانصرف الحضور بعد مصافحة سريعة غادر نزيه، الصحفى الشاب الذى تخرج للتو من كلية الإعلام ويعمل تحت التمرين فى أحد المواقع الإلكترونية الناشئة، اتجه إلى مقر الموقع الموجود فى إحدى الشقق بمنطقة وسط البلد، صعد السلالم حتى الطابق الثالث مقر الموقع وجلس إلى مكتبه ليعيد صياغة النقاط التى التقطها من كلمات المؤتمر، بدأ نزيه سعيدا بالمادة التحريرية التى فى حوزته وأخذ يراجع المحتوى كلمة كلمة ثم كتبه على الحاسب الآلى وطبعه، وألقى نظرة أخيرة وشعر بالرضا عن نفسه، ربما يوجه رئيس القسم بمكافأة له، أو يضع التصريحات فى مكان بارز فى الموقع.

نهض نزيه واتجه إلى غرفة فصيح رئيس القسم الذى كان مشغولا بمكالمة تليفونية تخللتها ضحكات عالية، جلس نزيه على المقعد المجاور للمكتب وهو يشعر بالاطمئنان، يبدو الجو مهيئا لعرض الشغل على رئيس القسم، انتهت المكالمة وبادر فصيح بسؤال الصحفى الشاب: المؤتمر خلص، ورينى عملت إيه؟.

مد نزيه يده بورقتين A4 تحتويان على 600 كلمة، مر عليها فصيح سريعا وبدا وجهه محايدا بلا ملامح يمكن أن تنطق بانطباعه عن الشغل. رفع فصيح وجهه عن الورقتين ثم أعاد وضعهما على المكتب أمام نزيه: مش بطال، لكن لسه عاوزين نختار العناوين.

- أنا كاتب مسودات لهم بالخط الأحمر.

- شفتهم، دول مينفعوش، العنوان لازم يكون لافت جاذب يشد العين.
ثم صوب فصيح عينيه تجاه الصحفى الشاب وقال له بكل جد: لسه أمامك طريق طويل لتعلم الشغل الصح. وأخذ فصيح قلما جافا وسحب ورقة بيضاء وطلب من نزيه أن يعيد عليه قراءة فقرات العناوين التى صاغها. أخذ نزيه الورقتين مرة أخرى من على المكتب ثم انطلق يقرأ بصوت مرتفع:
- توصيل المياه للمزارعين له تكلفة تشغيل وصيانة تتحملها الدولة مراعاة لظروف الفلاح البسيط - بلاش دى.. جملة تقليدية والكل عارفها اكتب “طول ما المياه ببلاش يبقى مفيش ترشيد..والأسعار هتزيد”، نظر نزيه فى تردد إلى رئيسه الذى أمره بالكتابة بسرعة وأخذ فى قراءة العنوان التالى:

- المياه الجوفية مورد غير متجدد ويمثل تحديا كبيرا لاستدامة أى استثمار عليها.
- دا عنوان مدرسى. خد ده أفضل: زيادة مرتقبة فى أسعار مياه الشرب والمياه الجوفية.
كتب نزيه بسرعة وأخذ يقرأ باقى العناوين: الاتجاه الأفضل هو التوسع فى محاصيل نقدية تحقق ربحا للفلاح وتستهلك مياها أقل لأن ندرة المياه لا تمكننا من زراعة الصحراء بالقمح.
- اكتب بدل منه: الدولار أهم من القمح.
لم ينتظر فصيح نظرة الدهشة التى ارتسمت على وجه الصحفى الشاب وانطلق يتحدث معه: شوف يا ابنى، احنا موقع جديد لن ننتشر وتزيد أرباحنا إلا إذا ركبنا الترند، ولن نركبه إلا بكتابة جمل مثيرة تشد القارئ.
- ماذا لو اعترض المسؤول الرفيع ومؤسسته على المنشور.
- إيه المشكلة!.. بالعكس سنستفيد من حالة الجدل. وننشر رد والرد على الرد وإلحاق على رد الرد، ونشغل الرأى العام والكل يتحدث عن الموقع وخبطاته الصحفية، استطرد فصيح فى حسم: المهم دلوقت تخرج بسرعة تعدل الشغل وتروح الديسك علشان يجهز للنشر.

قام نزيه والورقتين فى يده وهو يسير فى بطء، لم يذهب لمكتبه لإعادة الكتابة ووجد نفسه يحمل حقيبته وينزل سلالم الثلاث طوابق حتى وصل الطابق الأرضى واستقل ميكرووباصا وذهب لبيته.